أن تكتب عما يكتبه إبراهيم مضواح الألمعي فذاك أمرٌ مرهق؛ ولكني رغم هذا سأقحم نفسي في هذا المأزق حبًّا لشخص إبراهيم مضواح وإعجاباً كبيراً بما يكتبه منذ روايته: (جبل حالية) الصادرة عام2009م. لستُ ناقداً ولكني متذوق وانطباعي، فمنذ قرأت عنوان روايته (فراغ مكتظ) وقت صدورها كانت دهشتي كبيرة جداً، فأي فراغ يمكن أن يكون مكتظاً؟ وبماذا يكتظ؟! وخاصةً أن الألمعي -من وجهة نظري- من القلة الذين يجيدون اختيار العناوين من جهتين: الدهشة في العنوان. وصلتني الرواية إهداءً وبمجرد أن شرعتُ في القراءة استوقفني الاقتباس للفيلسوف: (جون ستيوارت ميل) الذي يقول فيه: «في المجادلات الثقافية غالباً ما يكون كلا الطرفين محقاً فيما يؤكده ومخطئاً فيما ينفيه»؛ وقفتُ لحظات وتساءلت: ماذا يريد إبراهيم أن يقول في هذه الرواية؟! وهل هذه رواية للنخبة المثقفة؟! ولم يَدُرْ بخلدي أن صفحات الرواية تخاطب العقل أيًّا كان هذا العقل: إسلامياً، أو ليبرالياً، منفتحاً، أو منغلقاً، من الخاصة أو العامة بلغة سلسلة عذبة عالية مفهومةٍ، لغة لا يتقنها سوى إبراهيم مضواح. تدور أحداث الرواية في تسعة أيام: من يوم الأحد 2 يوليو 2006 وحتى الاثنين 10 يوليو 2006م، ويا لها من أيام مكتظة بأحداث هائلة؛ متصاعدة ومستفزة، لو وضعت هذه الأحداث الكبيرة والمتسارعة خاماً أمام كاتب آخر مهما كان إبداعه فلن يكون بمقدوره اختزالها في تسعة أيام، بل لاحتاج على لأشهر حتى لا يقع في الاختزال المخل أو الإطالة المملة. في شقة قديمة في وسط البلد، تجمع عدة أصدقاء ما بين النرجسي، والمعقد، النفسي، والبوهيمي، واللامبالي؛ مشارب متعددة، يجمعهم الأنس والمشاكسات والصعود على أكتاف بعضهم إلى واجهات الصحف والإعلام، وتفرقهم غايات أخرى؛ كل له غاية وهدف، وكل يحمل عقدة دفينة أو موقفاً معيناً من تيار مخالف؛ وهكذا غالب شخصيات الرواية: (علام)؛ الدكتور الأعجوبة الذي يحمل قيماً ليبرالية في ظاهره بينما حقيقته مثل كثير من الليبراليين مزدوجي الشخصية؛ قيمهم الليبرالية لا تنطبق على أهليهم. يقابله الشيخ: (نبهان)؛ بوجه إسلامي من تجار الدين وممن أثروا على حساب دينهم، بقيم معاكسة لعلاّم ولكنها ذات الازدواجية والعقد؛ ويمثل كثيراً ممن يتلبسون بالدين ويدّعون الفضيلة. يتوسطهم «هزاع» أو كما يعايرونه «ابن النملة» شخص غريب قادم من قرية غريبة يحمل عقداً نفسية لا متناهية، متسلق بارع فاشل، تصرفاته تشي بالنذالة والخسة، شخصية مترددة مسحوقة يعمل إعلامياً يسعى لعقد لقاء تلفزيوني بينهم لعله يصنع له اسماً على حساب «حلقة الموسم» بين علام ونبهان بين الإسلاميين والليبراليين. وهنا يتأكد لي أن الكاتب محلل نفسي من طراز رفيع؛ فهو يتغلغل داخل نفسيات شخصيات الرواية فيذهلك، ويشدك حيال تمكنه وفهمه العميق لصراعات النفس البشرية في الأعماق؛ يفكك العقد ويعيدها إلى منشئها الأول ليفسر وبوضوح دوافع هذا السلوك وخلفياته المطمورة في اللا وعي، فنحن أمام كاتب يأخذك لكشف دهاليز النفس البشرية عقدةً عقدة، وظلمةً ظلمة. وتستمر أحداث التسعة الأيام بكل صراعاتها وآلامها؛ فالكل يسعى نحو المجد والشهرة، والأحداث تتصاعد، وتنتقل بك من منزل (مريم) زوجة علام وصراعاتها مع الدكتور، إلى قفشات رافع داخل شقة البلد وهو يعب كأسه، إلى قصائد مسعود المتناثرة هنا وهناك، إلى قرية (الحزناء) قرية هزاع ووالده، الذي كان قاسياً على هزاع في طفولته لدرجة مرعبة وكأنه يؤكد مقولة: «المرضى النفسيون لا يذهبون إلى الطبيب بل ضحاياهم»؛ تلك العقد التي جعلت هزاع يكتبها على الورق عملاً بنصيحة طبيبه، وهنا تتجلى براعة إبراهيم مضواح فيما يكتبه هزاع؛ فأنت تكاد تسمع بل ترى تلك الأصوات الداخلية في نفس هزاع، ترى وبوضوح آلامه المتعددة وعقده الكبيرة، ترى وجه والده وضعف والدته، وحياد خاله، وأجواء مدرسته ومعلميه، ترى بوضوح كيف يُسحق الطفل في طفولته. في ثنايا الرواية تدخل شخصية هامة متزنة: (محسن الخلف)؛ الذي كان يُحسب على الشيخ نبهان وتياره ولكنه لم يُسَلِّمْ عقلَه، وفتح باب المساءلة وتمحيص كل ما يمر عليه دون تسليم كما يفعل أتباع الشيخ نبهان، فهو يسمح للسؤال أن يأخذه يمنة ويسرة دون استسلام أو خضوع للإجابة، شخصية تناقش كلا الطرفين بعقلانية وثقة؛ هذه الشخصية كانت بمثابة شمعة عقل في تطرف الشخصيات الأخرى. وتمضي بك الأحداث بشكل مكتظ متصاعد وأنت تنتظر تتويج هذه الأيام باللقاء التلفزيوني المرتقب بين علام ونبهان بإدارة هزاع؛ لترى أي التيارين أقوى وأفصح بياناً، وفجأة وبعد أحدث مقدمات اللقاء المرتقب، التي أمتعت على مدى (174) صفحة، وحين يلتقي الطرفان: (نبهان وعلام) مع هزاع في كواليس البرنامج تنتهي الرواية، وفي منتصف الصفحة الأخيرة من الرواية تفجؤك كلمة: «بدأتْ»؛ وكأنه يحاول بشكل أو بآخر أن يمرر رسالة مفادها: لن ينتهي الصراع بين التيارين في الواقع، ولن يصل التياران إلى اتفاق بينهما؛ لأنهما أصحاب أهواء ومغانم شخصية، ومصالح ذاتية، وعقد نفسية، ما يجعلني أزعم أنك لن تفهم صراع التيارات بشكل عميق مالم تقرأ هذه الرواية، لن تفهم الدوافع الحقيقية للتيارات مالم تقرأ (فراغ مكتظ). إن نجاح الرواية عندي يكمن في: أن ينجح الكاتب في جعل شخصيات روايته وأحاديثهم تسكنك لفترة طويلة، وأن ينجح الكاتب في كشف دهاليز فترة تاريخية معينة، وخلفيات صراع نماذجها؛ حتى تعيد النظر في أهداف ودوافع كل نموذج، وأن يوقد في ذهنك شمعة تُريك ما خفي عنك؛ والحقيقة أنه بعد قراءة هذه الرواية يصعب عليَّ نسيان شخصياتها وأحداثها وصراعاتها النفسية وعقدها ودوافعها، ثم إن رواية (فراغ مكتظ) تؤكد لنا أن الروايات العظيمة لا تُجهز على الأحداث، بل تمهد لبدايتها. إن إبراهيم مضواح من القلة الذين أخشى القراءة لهم لأن الأمر بمثابة صعود قمم عالية؛ فهو أحد أهم جبالنا ليس في الجنوب وحسب بل على امتداد الوطن الكبير. * كاتب سعودي؛ صدر لي: ثلاثة كتب أدبية هي: 1- (حبيبتي المطر)؛ عن دار تشكيل. 2- (شامة)؛ عن دار تشكيل، 3- (الرجل الجسر)؛ عن نادي أبها الأدبي. إضافة إلى مشاركاتي الثقافية في الأندية الأدبية، والمقاهي الثقافية مع الشريك الأدبي.