تخطو السينما السعودية خطوات متسارعة نحو اللحاق بمثيلاتها في العَالم، إذ انطلقت من أسر ثنائيَّة “كوميديا / دراما” إلى فضاءات أوسع، تشمل العديد من المواضِيع ذات الأبعاد الخيالية والتَّاريخية والرومانسية والطبية والقضائية والبوليسية، وعلى هذا الأساس يمكنُ الحديث عن فيلم “حَوجن”؛ الذي يمثل نوعية مختلفة عن الأفلام السَّائدة على مستوى الساحة الفنية. لا يكتفي الفيلم بتسليطِ الضوء على عالم مختلف عن عالم البشر، عبر حكَايته عن العلاقة التي تجمع بين الإنس والجن، فحَوجن سليل ملك الفيحيين “مِيحال الفِيحي”، ووارث قُدرات المقربين وآخر من بقي منهم، حيث تهربُ به والدته وتخفي عنه قدراته خشية انتقام “هيَّاف”؛ الساعي للحصول عليها وتوحيدِ العالمين تحت قبضته. تدورُ الأحداث في أحد أحياء “جدة”، إذ تأتي عائلة “سَوسن”؛ طالبة الطب والمصابة بورم في الدماغِ للسكن هناك، فيأخذ حوجن في مراقبتها وينتهي به المطافُ للوقوع في حبها، ومحاولته مُشاركتها تفاصيل حياتها، وهو ما دفعه للتواصُل معها عبر الآيباد، حيث أخذ يحادثها يوميا. ما كان ممنوعاً على بني جنسه من الجن استطاع ممارسته، فمسائل التواصُل مع البشر والحديث معهم والتأثير على عالمهم أمورٌ ممنوعة على عالم الجن، الذي يخضعُ لقوانين وقواعد تنظمه وتحدِّد العلاقة بينه وبين عالم الإنس، وهو ما يثير في داخله الكثيرَ من الأسئلة بداية من القدرات التي يمتلكُها وأخفاها عنه جده ووالدته، وانتهاء برغبته في معرفةِ أبيه ولمن ينتمي! من أنا وإلى أي قبيلةٍ أنتمي؟ ومن أبي؟ ولماذا لا أعرف عنه شيئا؟ أسئلةٌ يطرحها الفيلم ليصوِّر للمشاهِد المأزق الهوياتي الذي يعاني منه فتى الجن، وأنَّ القضية ليست مختصة بالبشر، الذين لا يدركون هويتهم الحقيقيَّة، وهو ما سيستثمره لاحقاً أثناء مواجهة حوجن لابن عمه “زِعنام”، الذي لم يستطع الخروجَ عن طريقة أبيه، حينما تحالف مع هيَّاف في قتل الملك مِيحال والد حوجن. يضعنا الفيلم أمام مشهدين مُتعاكسين داخل عالم الجن، فزعنام وقبيلته من الفيحيين لا يتورَّعون عن ممارسة الموبقات والرذائل، ومحاولة الاستيلاء على النَّاس وتسخيرهم لخدمتهم؛ مثلما حاولوا مع سَوسن حين بعثوا أحد العفاريت ليوسوس في أُذُنها، ويبث في قلبها الخوف والرعب من جِنس الجن، أو حين حاولوا تسليط أحد أتباعهم من الدَّجالين المشعوذين كي يذبح “تيساً”، ويقدمه كقربان لعمل “عُقدة”؛ تمكنهم من إحكامِ السيطرة عليها والتحكم بأفعالها. أدرك حَوجن مخطط زعنام، لذا أخذ في التواصُل مع “إياد” خطيب سوسن ليمنعَ الكارثة قبل وقوعها، لكنَّ الأب سبقهم وحمل ابنته من المستشفى إلى البيت، لتبدأ طُقوس تقديم القربان، ولولا حضورُ حوجن واستعماله لقواه الخفية لما تمكَّن من منعهم، إذ طردهم وطاردهم وأوقفهم قبل أن يذبحوا التَّيس؛ لتنكشف قواه أمام ابن عمه، الذي تعاركَ معه من أجل القبض عليه وتسليمه لهيَّاف، لأنه وعده بأن يصبح ملكاً على الجن. استطاع حوجن الانتصارَ على زعنام وحرمه من إكمال مخطَّطه الشيطاني بالاستيلاء على مملكة الجن، كما منع هيَّاف من السيطرة على عالم الإنس والجن عبر توحيدِ العالمين في قبضته، وهنا يكتشف هويته الحقيقيَّة وأنه سليل أحد الجان الذين يمتلكون قُدرات المقربين، ولا يستطيع شيءٌ الوقوف بوجهه حينما يوجِّه قدراته لتنفيذ ما يريد. هيَّاف القائد والملكُ العظيم والمهابُ في عالم الجن لا تظهر حكايته في الدراما الفنتازية إلا على لسانِ الآخرين، فيتم الاكتفاء بتصويره شخصية هامشية لكنها فاعلة ومؤثرة في محيطها، إذ لم يُخصَّص لظهورها أكثر من دقيقة وضمن لقطةٍ واحدة، وهو ما يشير إلى توجُّه الفيلم نحو رواية سيرة حوجن وسوسن وما يتعلَّق بها، مع تقليص الاهتمام بالأحداثِ الأخرى، واعتبارها تفاصيل إضافية تثري ولا تؤثر على النتائِج. حوجن أحبَّ سوسن وحاول التقرب منها وأظهر لها مشاعره، لكنه محكومٌ ببُعد مختلف عن بُعدها ولا يستطيعُ الالتقاء معها فعلاقتها مصيرها عدم النجاح، يضافُ لذلك الحياة الطويلة نسبيًّا للجن، فجدُّه مات وهو يبلغ أربع مئة سنة، بينما البشر لا يعمِّرون إلا إلى الثمانين، وكذلك دخول وصيَّة والده ومشاركتها في صناعة الحدث وتوجيهه؛ لأنه أوصَى بزواجه من ابنة عمه “جُمارى”. زواج الجني من الجنية والإنسي من الإنسية؛ نهايةٌ طبيعية وحلٌ مثالي لحبكة الفيلم، حيث سيفترق العالمان ولن يلتقيا مجدداً، حتى لا يكون بينهما تداخلٌ وتأثُّر، وهو ما اتجهت إليه النهاية التي جعلت إياد يتمسَّك بسوسن ويرفض التخلي عنها رغم علمه بوجود ورمٍ في دماغها؛ ما يمثِّل أرقى مشاعر الإنسانية من نواحي الحبِّ والعطف والوفاء. جمارى لا تحضرُ إلا في المشاهد الأخيرة من الفيلم كشخصيَّة مؤثرة، حيث يتضح أنها تمتلك قُدرات المقربين وتسعى إلى اكتشاف نفسها وهويتها، ما يجعلها مُتشابهة مع حوجن، فالهدف يوحِّدهما ويقودهما إلى الانسجام والالتقاء على الحبِّ والوئام، رغم اختلاف العادات بين قبيلةِ الفيحيين وقبيلة الأنفار التي تنتمي إليها والدته وتدينُ بالتوحيد، وهذا ما يبرر فعله معها حين حاول تغطية كتفيها أثناءَ مرورهم في مدينة الأنفار، الذين أخذوا ينظرون ناحيتها بتوجُّس وريبة، لكنها رفضت، فوعدها أنه لن يجبرها على شيءٍ لا تريده. هنا يكونُ الفيلم انتهى باكتشاف حوجن وجمارى لقدراتهما، وقرارهما إكمالَ حياتهما والمحافظة على توازن العالم، فلا عالم الجنِّ يتدخل ويسيطر على عالم الإنس، ولا عالم الإنسِ يتأثر بعالم الجن وما يحدثُ فيه من صراعات، رغم أنهما يعيشان جنباً إلى جنب ويشتركان في المكانِ والزمان والأحداث. ينتمي فيلم حَوجن إلى الفانتازيا الدرامية؛ ما يعني احتواءَه على مشاهد خياليَّة تخدم اتساع الأفق، ويتمُّ توظيفها على مستوى الحدث ونموه، وهو ما لم يستثمره، إذ اقتصرَ على العلاقة بين عالمي الإنس والجن، وتركيزِ المشكلة في اكتشاف حوجن لهويته، وهذا ما جعله يميلُ إلى الدراما لتتغلَّب على جانب الفنتازيا.