استضاف مركز حمد الجاسر الثقافي سعادة الدكتور عصام بن ناهض الهجاري الشريف،أستاذ التاريخ بجامعة طيبة، وعضو نظارة مركز المدينة المنورة للدراسات والبحوث، حيث قدّمَ محاضرة بعنوان: (لمحات عن تدوين تاريخ المدينة المنورة ومعالمها)، وأدارها سعادة الأستاذ الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي، أمين عام جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي، بحضور نخبة من المؤرخين، والآثاريين، والأكاديميين، والمثقفين، في دارة العرب، ضحى السبت 21 جمادى الأولى 1446هـ - الموافق 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024م. وقد استفتح سعادة الدكتور أحمد الزيلعي اللقاء بالتعريف بالمحاضر، وتنوع معارفه الشرعية والتاريخية والآثارية والبلدانية والنسبية، وأشار إلى ثناء الشيخ حمد الجاسر عليه، وهو في سن مبكرة من عمره. ثم بدأ الدكتور عصام الهجاري محاضرته، وقدم نبذة عن المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهمية توثيق تاريخها، ومكانتها السامية لدى كل مسلم، مثمنًا جهود الشيخ حمد الجاسر في خدمة تاريخ الجزيرة العربية بشكل عام، والمدينة المنورة بشكل خاص، الذي وصفه بأنه فريد عصره ونسيج وحده، وأنه فردٌ في ذاته وأمةٌ في نفسه، نفع العلم والمعارف والعلماء وطلاب العلم والمكتبة العربية والوطنية، ونفع العالم أجمع بمؤلفاته، وبحوثه، ومقالاته، وتحقيقاته، وكل إصداراته. ثم سرد المحاضر الأحاديث النبوية عن مكانة المدينة المنورة ومحبتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وتابعيهم، وتحدث عن بركتها، وخيريتها، وفضائلها، وكيف بعثت في نفوس العلماء تشوقًا دائمًا للكتابة عنها،وعن مغازيها، وتاريخ رسول الله ومسجده، وأوديتها ومواضعها،والشعر والأدب والنقوش، ووصفها بأنها جامعة من المعارف والعلوم، التي جذبت علماء المسلمين، مستشهدًا بتفرّد عناوين الكتب عنها،وشمولية المؤلفات لمختلف الجوانب التاريخية والأدبية والسيريّة، وكأنهم يستشعرون هيبة المكان وقداسته، ويستحضرون معاني الحب، الذي عبروا عنه بما تركوه من تراث عظيم. ثم عرج على التدوين في تاريخ المدينة، ووصفه بأنه حالة فريدة في التدوين ؛ كسلاسل النسب، وأسانيد الحديث، في ترابطها الزمني في التأليف، بحيث إن كل عالم فيها يُذيّل على من قبله، أو يتمّم النقص الذي تركه، وأنها تميزت أيضًا بوجود عناية في تتابع التأليف الأسري والعائلي، وضرَبَ مثالًا للأسرة الزبيرية، والعقيقية، والسمهودية بالمدينة المنورة، والحال مثله في تدوين تاريخ مكة المكرمة في الأسرة الظهيرية، والطبرية. وقد قسم المحاضر التدوين في تاريخ المدينة إلى ثلاثة مراحل :- الأولى: وهي المرحلة المبكرة، مرحلة التكوين لهذا النوع من التاريخ، ويظهر في القرنين الأول والثاني الهجريين ؛ إذ كان التأليف يتركز على المغازي النبوية، وعلى رأسهم عروة بن الزبير، وأن عائلة الزبير بن العوام يمكن وصفها برائدة التأريخ، من خلال ما تركوه عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاريخ المدينة ثم إبّان بن عثمان بن عفان، الذي ترك لنا أخبار السيرة النبوية والمغازي، ثم محمد بن شهاب الزهري، ثم موسى بن عقبه، الذي كان يوصي بسيرته الإمام مالك، وهو من أوثق من كتب في المغازي، ثم إمام السيرة الإمام محمد بن إسحاق المدني،وهو رأس علم المغازي المنقول إلينا، واختصره ابن هشام، وقال إن هذا الملمح في التأليف يمثل كل أنواع العلوم الشرعية، والاقتصادية، والعمرانية، والعسكرية، والتربوية، ولخّص لنا المحاضر أهمية التوثيق التاريخي، واصفًا سيرة رسول الله بأنها مدرسة شاملة، كما أن مدرسة الصحابة والتابعين حرصت على تعليم المغازي والسير وذكر قول الصحابي ابن عمر والتابعي علي بن الحسين : " كنا نتعلم المغازي والسير كما نتعلم السير من القران " . ثم تحدث عن المرحلة الثانية:- وهي مرحلة التأسيس، في نهاية القرن الثاني، ورائدها المؤرخ محمد بن الحسن بن زبالة،الذي ترك لنا أخبار المدينة النبوية، *وقدم المحاضر مصطلحًا تاريخيًا مبتكرًا عن تاريخ المدينة، عن أمهات الكتب في هذا المجال وهو: ( الكتب الخمسة في أخبار المدينة النبوية )،وأولهم محمد بن الحسن بن زبالة، وكتابه (أخبار المدينة النبوية)، وثانيهم محمد بن غسان المدني، وكتابه (أخبار المدينة النبوية)، وثالثهم عمر بن شبة- رحمه الله-،وله كتاب (أخبار المدينة النبوية)، وهو أهم كتاب وصلنا كقطعة،غالبها وصل إلينا في عدة طبعات، وذكر المحاضر أن للشيخ حمد الجاسر عظيم العناية بهذا الكتاب، وأنه نشر بحوثًا عنه في مجلة (العرب)، ورابعهم كتاب ( أخبار المدينة النبوية )، للزبير بن بكار،وخامسهم كتاب (أخبار المدينة النبوية)،لأمير المدينة يحيى بن الحسن العقيقي العلوي. ثم تحدث المحاضر عن منهجية التدوين التاريخي في الكتب الخمسة. وأوضح أن المرحلة الثالثة كانت: مرحلة الاستقرار في التدوين في تاريخ المدينة، والتطوير في القرن الثالث والرابع، التي تتابع العلماء في التأليف فيها وأبرزهم الإمام ابن النجار البغدادي، المتوفى عام 643هـ،الذي ألف كتابه باسم ( الدرة الثمينة في أخبار المدينة)، ثم ألف بعده الإمام ابن عساكر ( إتحاف الزائر وإطراب المقيم السائر )، ثم جاء بعده جمال الدين المطري وألف كتابه ( التأليف بما أنست به من معالم دار الهجرة )، ثم تبعه بعد ذلك الإمام المراغي في كتابه ( تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة )،واختتم المحاضر حديثه عن هذه المرحلة بشيخ المؤرخين في المدينة، الذي جمع كل ما كُتب قبله، وأتعب كل من جاء بعده، الإمام نور الدين علي بن عبدالله السمهودي، في القرن العاشر،صاحب كتاب (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى )، الذي وصفه بالأعجوبة، و أنه من أندر ما أُلف منهجيًا في تاريخ المدينة. وقال : إن عمر بن عبدالعزيز انبرى إلى توسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم،وبذل أعظم البذل في العناية بمسجد رسول الله، والمساجدالتاريخية. وأثنى على مشروع سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، في تأهيل المساجد التاريخية، والبشرى العظيمة في إعلانه وإطلاقه أكبر توسعة لمسجد قباء، بزيادة عشرة أضعاف، وما أعلنه سمو أمير المدينة الأسبق الأمير فيصل بن سلمان، من شمولها البعد الديني، والتاريخي، والحضاري، والمعماري، والبيئي، والثقافي، وما أُنجِز مؤخراً في المنطقة المحيطة بمسجد قباء، بجهود سمو أميرها الأمير سلمان بن سلطان ومتابعته . ثم ذكر اهتمام الإمام البخاري في صحيحه وعنايته بالمدينة وتخصيص باب في صحيحه عنها،ونقل كلامًا مهمًا للإمام أحمد، في الاهتمام بذلك؛ يُعدّ تأصيلًا شرعيًا ووسطيًا، وذكر أنه أصبح لدينا اليوم علم تخصصي عن تاريخ عمارة المسجد النبوي، وأنه كان محل اهتمام سمو الأمير فيصل بن سلمان، في فترة إمارته بالمدينة، الذي أشرف بنفسه على أول موسوعة تاريخية في تاريخ عمارة المسجد النبوي، التي صدر منها المجلد الأول، وكانت محل اهتمامه الشخصي. وقال: لدينا في جزيرة العرب كنوز ثرية، موضحًا بأن الشيخ حمد الجاسر بذل جهدًا عظيمًا في العناية بهذا التاريخ وتدوينه، خاصة ما كتبه عن مدينة رسول الله من بحوث ومقالات. ثم تحدث عن النقوش الثرية في مدينة رسول الله، التي قال إنها أكثر من ( 7 ) آلاف نقش،وهو فن قائم في تاريخ المدينة، التي شارك فيها د. سعد الراشد وتوأم روحه الشيخ الأنصاري، ود. أحمد الزيلعي، ود. مشلح المريخي، ود. عبدالله المنيف، والاستاذ محمد المغذوي،وأثنى على جهودهم في التحقيق والتدوين عنها. ثم تحدث عن تدوين التاريخ في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله -،وقال: كان اهتمامه اهتمامًا عمليًا،منذ أن دخل المدينة في زياراته الأربع،وحافظ على آثار السلف فيها، وقال كلمة في زيارته الأولى أسسها منهجًا لمن بعده، ونُقلت في وسائل الإعلام،عبر سمو الأمير فيصل بن سلمان أمير المدينة المنورة سابقًا، والتي قال فيها : "يبقى كل قديم على قدمه"، وذكر المحاضر أنه ما زال مسجد رسول الله تراعى فيه هذه الأمور، وأن أبناء الملك عبدالعزيزالبررة ساروا، من بعده على هذا النهج. وأشاد المحاضر بجهود صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز، ورعايته لتدوين التاريخ والمعالم الأثرية والمكتبية، واستعادة هوية المدينة الحقيقية التاريخية والحضارية، في ظل توجيهات خادم الحرمين وسمو ولي العهد، ومن ثم جاء من بعده الأمير سلمان بن سلطان وجهوده في خدمة تاريخ المدينة المنورة ومعالمها،ومن ذلك تدشين (مسار بدر التاريخي)، من ضمن عدة مسارات تاريخية للسيرة النبوية،وبما يتفق مع نهج الرؤية 2030،التي رسمها ولي العهد، - حفظه الله - للعناية بالتاريخ الإسلامي والحضارة التاريخية للجزيرة العربية. ووصفهم بأنهم كالبدور،إن غاب بدر ظهر بدر. وكذلك ذكر المحاضر جهود سمو نائبهما الأمير سعود بن خالد،ومعالي أمين المدينة، وما يترجمه الجميع من تطلعات القيادة الحكيمة. وقال : إن الرائد الأول في هذا الحراك وباعثها في هذا الوطن هو شيخ المؤرخين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي أسس منهجًا للمؤرخين في الوطن، ووصفه بأنه صاحب صناعة تاريخية في التأسيس لتدوين تاريخ الجزيرة وحضارتها، بكل نواحيها، وفي كل أقاليمها. وختم المحاضر محاضرته بدعوته علماء التاريخ والآثار والمعالم، بأن يخصصوا جزءًا من نتاجهم وبذلهم العلمي في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالمدينة لها حق علينا جميعًا،وهي وفية مع كل من خدمها. ثم فُتح المجال للمداخلات التي أثرت الموضوع، والاستفسارات التي تفضل المحاضر بالرد عليها.