هذا كتاب جميل عن الماسة السمراء، يوحي العنوان بأن الموضوع عن جوهرة نفيسة لونها أسود، ثم نعرف أن المقصود بابا طاهر، وبابا طاهر معروف جداً عند من عاشوا مع بدايات الإذاعة في السعودية، فهو من أوائل من أعدوا وقدموا برامج الأطفال بل وأصدر مجلة الروضة للأطفال، لذا بقي اسم بابا طاهر في ذاكرة أطفال ذاك الزمن، طاهر هذا هو مؤلف القصيدة التي اشتهرت وغُنيت منذ زمن طويل، وكانت ولا زالت تهز القلوب، شوقاً وولهاً وطرباً: أهيمُ بروحي على الرَّابية وعند المطاف وفي المروتين وأهفو إلى ذكر غــالية لدى البيت والخيف والأخشبين أهيم وفي خاطري التائه رؤى بلد مشرق الجانبين يطوف خيالي بأنحائه ليقطع فيه ولو خطوتين إذن فنحن نقرأ سيرة الشاعر والمذيع والصحفي والكاتب طاهر زمخشري، الذي قال عنه الشاعر « أكرم به من طاهر مطهر وعالم موقر زمخشري وكاتب خصب البيان مزهر وشاعر سامي الخيال عبقري وصاحب سامي الفؤاد نير بياض نفس في محيا أسمر» نعم، طاهر هو كل ذلك وسواه مما احتوته قصيدة الشاعر المصري محمد مصطفى حمام وهو يقدم لديوانه « أغاريد الصحراء» أما كنيته الزمخشري فقد جاءته من لقب اكتسبه جده بما عرف عنه من علم ودين وفقه، الزمخشري الأول هو محمود بن عمر أبو القاسم الذي ولد في مدينة زمخشر في خوارزم، كان إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير، سموه جار النبي لأنه جاور بمكة طلباً للعلم، وله الكثير من المؤلفات أهمها «الكشاف عن حقائق التنزيل « و«أساس البلاغة» وقد توفي عام 538 للهجرة وطبقت شهرته الآفاق في عصره. الزمخشري الثاني كان أحد علماء وأدباء مدينة جاو الواقعة على نهر النيجر، اسمه محمد ولغزارة علمه أطلق عليه اسم الزمخشري تشبيهاً له بالزمخشري الأول، وهو جد بابا طاهر، كانت مدينة جاو حاضرة علمية وثقافية على ضفاف نهر النيجر في وسط أفريقيا التي كان يُطلق عليها السودان الغربي، والسودان الغربية كانت إقليما يضم اليوم مالي والنيجر وغانا ويمتد حتى حدود مراكش، وقصة اكتساب الاسم تدل على شيوع الثقافة الإسلامية والعربية. أرسل محمد ابنه عبد الرحمن مع صديق له اسمه الفا هاشم إلى مكة، وكان الفا هاشم من كبار العلماء، الرحلة للحج ولطلب العلم استغرقت خمس سنوات، انضم إليها كثيرون من طلاب الحج والمجاورة من الأنحاء التي مرت بها القافلة. وصلوا مكة فأقاموا في محلة الطندباوي حيث يقيم أغلب الأفارقة، الفا هاشم عرف في الرحلة عن عبدالرحمن الفقه والحكمة، فاستخلفه على من أتى معهم مفتياً ومرشداً، وانتقل ليدرس في الحرم المدني، لم تكن الحياة يسيرة ولعلها تلك الفترة التي قال الشاعر فيما بعد أنه جاع يوماً واضطر أن يبحث عن الأكل في القمامة حتى يعيش، في تلك الأيام لم يكن لوالده ما يسهل له سبيلاً للعمل حتى وجد عملاً كفراش في المحكمة الشرعية، وهكذا انتقل بيته ليصبح على سقف المحكمة الشرعية. ثم أخذ طاهر يدرس في حلقات الدرس في الحرم، انتقل بعدها إلى مدرسة الفلاح، بدأ يرتاد عالم الشعر حينها، كان يجلس في المحكمة الشرعية على مكتب الشاعر محمد غزاوي، فإذا أتى صاحب المكتب سأله منتهراً كيف يجرؤ على الجلوس على مكتبه !؟ فيجيبه طاهر أنه يريد أن يكون شاعراً مثله. ألف أولى قصائده في رثاء مربيه في مدارس الفلاح الأستاذ عبدالله حموه السناري من السودان. وقد اشتهر بعدها طاهر بالتخميس والتشطير لبيوت الشعر، ثم أصبح يكتب ما سماه بأوراق العيد مقلداً كتاب أوراق الورد للرافعي، وقد اشتهر مبكرا لدرجة أنه تلقى رسالة من جمعية الطلبة العرب في دلهي يطلبونه معارضة قصيدة سلوا كؤوس الطلا. حصل على شهادة مدارس الفلاح العليا والتي كانت تعادل شهادة الثانوية الأزهرية، ولكنه تأخر في الحصول على عمل مناسب ويعزو ذلك إلى أن الوساطة والوجاهة كانتا مطلباً دائماً للوظيفة، إلا أن الصدفة الحسنة تدخلت، فقد ذُكر أمره أمام الشيخ محمد سعيد عبد المقصود مسؤول مطابع أم القرى فعينه كاتباً في المطبعة براتب فراش وهذا العمل أشبه بأعمال السكرتارية، وهكذا كلفه رشدي ملحس مدير جريدة أم القرى بتبويب الجرائد التي تأتي بالبريد، وكان عددها 150 مطبوعة، أصبح يأخذ الوقت كله في قراءة هذه الجرائد، وشكلت له هذه انطلاقة ثقافية، بدأ الأستاذ عبد المقصود في كتابة مقالات في النقد الاجتماعي في جريدة أم القرى باسم مستعار وسرعان ما حل الزمخشري مكانه فكتب عن الفقر، ورغم إعجاب القراء بمقاله الأول فإن والده عاقبه لأن المقال كان أجرأ مما ينبغي. انتقل بعدها إلى المدينة ليعمل مدرساً في مدرسة الأيتام هناك، ولكى يكون قريباً من والدته التي أصابها مرض أثر على قواها العقلية، كانت مكة والمدينة آنذاك تحفلان بالنشاط الثقافي والأدبي، وشارك طاهر في جلسات مركاز المسفلة والأولمب في مكة ومسامرات الخميس في المدينة، ومن خلال تلك الندوات تعرف على وجوه الفكر والثقافة ومعظمهم أمسى له شأن. عاد الى مكة ليعمل في أمانة العاصمة المقدسة سكرتيرا لمديرها الشيخ عباس قطــــان الذي رعـــاه واصطحبه معه خلال مهماته لإنشاء بلديات الرياض والخرج والليث، ثم اصطحبه إلى القاهرة، فتعرف هناك على بعض أدبائها، وعمل على طباعة ديوانه الأول، الذي طبعه بمال كان قد ادخره لعلاج مرض عينيه وأعانه أيضا أحــــد الموسرين. ويعتبر ديوانه أغاريد الربيع أول ديوان شعر عربي لشاعر من السعودية، ولذلك قصة طريفة وقعت بينه وبين الأديب أحمد عبد الغفور عطار. وقد حدث انه كان يرافق الشيخ عباس قطان إلى لقاء مع وزير الأوقاف المصري دسوقي اباظة باشا الذي كان في ذات الوقت رئيسا لرابطة الأدب الحديث ، فمنعه حراس الوزير من الدخول لسواد بشرته مستكثرين عليه معاملة أكثر من معاملة البوابين والحراس. سواد البشرة هذا حال بينه وبين الزواج بمحبوبته أيضا، فتزوج من إحدى قريباته وأخلص لها الحب، وقال فيها الأشعار العذبة في حياتها وخلال مرضها وبعيد رحيلها المبكر ، ولم يتزوج بعدها رغم أن أكبر أولاده آنذاك لم يكن قد تجاوز العاشرة، والطريف والمحزن أن محبوبته الأولى ارتحلت لعالم الاخرة بعد زوجته بفترة وجيزة فرثاها بالحرقة التي رثى بها زوجته، وكان يعد من كبار الشعراء الرومانسيين ، وفي حفل لتكريمه قدمه ورحب به في مصر الشاعر إبراهيم ناجي وسماه عمر بن أبي ربيعة المعاصر، لانتماء شعرهما إلى نفس المدرسة . ورغم أن مثل هذا الشعر يعده بعض الفقهاء من الفسق فإن علاقته بمشايخ الرياض وعلماء الدين فيها كانت وطيدة ، دعاه الشيخ عبد العزيز الشلهوب ودعا كوكبة من علماء الرياض ، وقدمه قائلا هذا شاعر الحجاز الفاسق، فاستنكر المشايخ أن يُرمى الرجل بالفسق دون دليل، هنا استحلفه الشلهوب أن ينشدهم من غزله ، فأنشد قصيدة طويلة شديدة العذوبة ختامها «فقالت وقد دب النعاس بجفنها إذن ليس لي في العالمين مثيل لأني في دنيا المفاخر كوكب صبح الخدود أصيل ونامت و حولي غمرة من ضيائها فقلت ألا ليت العناق يطول ثم استدرك: فتشت من حولى فإذا طيف غادة وطيف الغواني في المنام ختول» فقالوا كلهم : والله يا خبيث ما وضعت البيت الأخير إلا خوفا من المشائخ. يذكر الكتاب الكثير مما رواه أصحابه عن عطائه للفقراء والمساكين رغم ضيق ذات اليد ، كان يصرف راتبه كله على المحتاجين بل يستدين لأجل ذلك و يعود إلى بيته حيث ما ثمة إلا قطعة الخبز اليابسة مع الجبن والشاى في الفطور والعشاء . هنا ينتهي الجزء الأول من الكتاب، ولم يظهر الجزء الثاني بعد ، ولا شك أن بابا طاهر جدير بجزء ثان يحتوي ثراء تجاربه ، مثل تجاربه في برامج لطفال الاذاعة وفي البرامج العديدة للاذاعة والتليفزيون التي أعدها وقدمها، وتجربته في رئاسة تحرير صحيفة البلاد ، ومساجلاته مع الشاعر أحمد قنديل بالشعر «الحلمنتيشى» ، ثم حياته في تونس التي اتصلت أسبابه فيها برئيسها بورقيبة وحياته في مصر ولبنان ، وله في كل مرحلة مجموعة دواوين سميت بالمجموعة التونسية ، ومجموعة الأرز ومجموعة النيل. وقد منح جائزة الدولة التقديرية في السعودية وجائزة الأسطوانة الذهبية من اليونسكو. تمنيت أن يتمكن مؤلف الكتاب محمد توفيق بلو وهو سبط بابا طاهر من اكمال سيرة جده، فقد مرت سبعة عشر عاما منذ صدور هذا الجزء، المؤلف أصيب بمرض في عينيه أخذ نور بصره، تخصص بعدها في تأهيل المعاقين بصريا وقد سجل تجربته مع العمى في كتاب من جزئين حاز تقييما مرتفعا على موقع goodreads ، تضمن الكتاب مطولات اقتبسها الكاتب من كتاب أيامي أحمد السباعي ، ومن مدونات الثلوثية، وهذه ساعدت في تصوير عالم طاهر الخارجي للقراء. حسن المشاري - وكان وزيرا للزراعة ومثقفا كبيرا - قدم بابا طاهر في إحدى المناسبات بكلمات كان بابا طاهر يعتز بها فقال: «طاهر زمخشري، كومة من الفحم الأسود، تلبس ثيابا بيضاء، تقول شعرا قصائده حمراء، وخضراء وصفراء، يعيش تحت جداول البلدية، وتحت الفانوس»، أما تحت الفانوس عمود كان يكتبه بابا طاهر باسم مستعار . يا لله، كم جنى على بابا طاهر لونه!! رحم الله بابا طاهر