مهرجان سيدي بوسعيد.. ويا لها من حفلة!

بعد مشاركات عديدة، بمختلف الأصقاع، أكتب بالخصوص، وبحماسة عن مهرجان سيدي بوسعيد، للشعر العالمي، وبعد شهر من نهايته، عن مشهد تمثيل الوفد السعودي فيه، كضيف شرف أول، في دورته الثامنة، لسببين: أولهما أنه ربما لم يحدث من قبل، أن تشترك كل هذه المؤسسات السعودية معاً، في حدث كهذا (مركز إثراء بأرامكو، هيئة الأدب والترجمة بوزارة الثقافة، السفارة والملحقية السعودية بتونس، بوزارتي الخارجية والتعليم) وبهذا التنسيق اللافت، والانتباه الرفيع لأهمية الأدب السعودي الحديث، في فعالية متطلعة، وتتقدم مكانتها، في حركة فعاليات العالم المتوسطي والمشرقي الأدبية، من جهة، وفي إضفاء لمحة، من صورة مغايرة، مبهجة ومبشرة، لما تمر به السعودية، من تحولات، بما فيها تمكين الاعتبار لما هو ثقافي وأدبي، حديث وحقيقي، من جهة أهم! والسبب الثاني في الحضور الأكثر من رائع، للوفد السعودي نفسه، بجدية التزامهم، وشخوصهم، التي كسبت تقدير الجميع، حتى النهاية، وحضور نصوصهم وتجاربهم الشعرية المتقدمة والمتجاوزة! تبدأ الحكاية من مشروع «جسور» الذي يقوم عليه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، عبر مبادرتهم الوطنية ببرنامج «دعم المحتوى العربي»، ويشرف عليه، الواعي والنابه، الأستاذ طارق خواجي، في شقّ مبادرات الشعر العربي المترجم، ليتضمن ذلك أنطولوجيا واسعة، تولاها الشاعر والناقد، الأستاذ عبدالله السفر، وضمت نماذج من تجارب منوعة لثلاثة وأربعين شاعراً وشاعرة من السعودية، بأجيال مختلفة، بالإضافة لطباعة أربع مجموعات شعرية سعودية، للشعراء (أحمد الملا، صالح زمانان، محمد الحرز، غسان الخنيزي)، وقد صدرت هذه الأعمال الخمس، بكفل وشراكة إثراء، عن دار النشر الفرنسية العريقة «ليز برس دو ريل»، عبر سلسلة «أل دانت» الأدبية في الدار. ثم توافق الجهد، والعمل المؤسسي الرائع، بين الجهات التي أشرت لها سلفاً، لتشارك السعودية، في ضيافة الشرف، بوفدها وتجاربهم، في هذا المهرجان العالمي بتونس، الذي لم يكن حصراً على العرب فحسب، بل كان تظاهرة مشرعة لشعراء من فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، ومالطا، وأمريكا اللاتينية.. وغيرها! أعود للأنطولوجيا، التي أعدها الشاعر والناقد، أ.عبدالله السفر، وسماها «رمال تركض بالوقت. مختارات شعرية سعودية معاصرة»، وبطريقة الكبار، اكتفى السفر بعناء ملاحقة الشعراء، كي يبعثوا بنصوصهم، ثم كتب مقدمة موجزة وحاذقة، عن الشعر السعودي ومداه المعاصر، لتكون لكل كلمة فيها دلالة. لقد كتبت بعين الخبير المستوعب، أو الرائي من علو البصيرة للميدان، فلم تكن أبداً مجرد تقديم، أو تعريف بحركة أدبية في بلد ما، في مطلع أنطولوجيا، موجهة لقارئ آخر، لا يعرفها، غالباً، بل رصداً خاطفاً، وإغراءً أعمق، بشيء ناصع وجارح، في الشعرية السعودية، من حيث لا يُنتبه لها! يقول، الذي يفتح النافذة ويرحل، عبدالله السفر: «الحريـة هـي العنوان، الذي تنكتب في ضوئه القصيدة الجديدة، في المملكة العربية السعودية. المساحة شاسعة بـلا أسـوار، والخارطـة بيضـاء، تخلـو مـن التضاريس، وليس ثمة، في العمـل، مـن أربـاب سـابقين، يتجولون بآثارهـم وكراسيهم المنصوبة في الغيـم، يطابقون ويمنحـون بطاقة العبـور، أو يقومـون بإغلاق البوابـة؛ فينعمـون بشارة التميـز أو الإخفاق». ستلاحظ أن السفر استثنى نفسه، رغم سبق، وضرورة تجربته الشعرية، فلم يشارك بنصوصه، لا في الأنطولوجيا، ولا في القراءات بالمهرجان، وهذا مجدداً سلوك رفيع، لا يفعله إلا من يريد فتح النافذة بالفعل! شارك السفر فقط في ندوة نقدية، حول ترجمة الشعر، عبر التجارب الأنطولوجية! إذاً! هنا الشمال الأفريقي، باعتداده العربي الخالص، وانفتاحه النابئ قليلاً عن الفرانكفون. بدأ المهرجان في الخامس عشر من يونيو، في عالية سيدي بوسعيد، المكان المكتنز بمماشيه المرصوفة بعناية، وبناياته التاريخية، بهيبة بيضاء، تجلس على تلك المسافة، كمزار لا ينام، في ذلك المرتفع الخلاب، من بهاء المتوسط! صبيحة اليوم التالي، وفي الباحة الداخلية لقصر النجمة الزهراء، أعلن الشاعر والمترجم، مدير المهرجان، الأستاذ معز ماجد، وزوجته السيدة آمنة الوزير، افتتاح المهرجان، مرحباً بالوزراء والسفراء، والشعراء من كل صوب، وخاصاً ضيف الشرف، المملكة العربية السعودية، بحضور سفارتها، ممثلة في سعادة السفير، عبدالعزيز بن علي الصقر، الذي كان أنيقاً، ليس في كلمته فحسب، بل في تفاديه الوقور، لأي حديث، سوى لحظة الشعر اليانع، وبدء حفلته! منذ ذاك الصباح، وعلى مدار ثلاثة أيام، تنقل الشعراء بقراءآتهم، والنقاد بندواتهم، في فضاءات سيدي بوسعيد؛ النجمة الزهراء، دار زروق، أيام زمان، القهوة العالية.. وسواها! في الجوار ستجد سوق الشعر! في مهرجان كهذا، هناك سعيد السريحي، عادل خميس، آدم فتحي، صبحي حديدي، جساس الأغبري، في تنقيبهم البارع، وستعود بالكلمات والصداقة.. صبري رحموني، الطاهر بن أحمد، رضوان جعرودي، محمد العربي، وجمال الجلاصي، صابرين الفنودي، والثنائي الموسيقي الرائع: محمد الشيخ، وهيفاء عامر.. وآخرون! في حلق الوادي يضحك الجميع، ونتفق على اقتراحات الجميل، النشمي مهنا؛ أبوبكر سالم، ومن ذلك الشرح الحضرمي، يدور الوقت في مضمار خفته الروحية! لا بد من تسجيل ثلاث تحيات، للأصدقاء؛ يحيى امقاسم، طارق خواجي، وأحمد طابعجي، الذين كانوا في المحبة والموعد، وتمام الترتيب والعناية بالوفد السعودي.. وتحية وافرة لمهرجان سيدي بوسعيد، للأستاذ معز ماجد وفريقه، لجهدهم ولحفلتهم الشعرية الهائلة، والسلام أولاً وأخيراً لتونس، مسيل الأنوار وبهجة النسور! أخيراً.. ولأجل وفد الشعر، ومروجه المذهبة بالندى والشموس، فهذه مختارات خاطفة، من الأنطولوجيا، وبعض قراءات المشاركين: •لرأس الرفقة العالي، وكثبان العمر القلق، أحمد الملا: «تكتم كلاماً يتدافعُ، وتكزُّ على أسنانِك لينتظم، فتريّثْ قليلاً. الغضبُ كنزُكَ فلا تبذلْهُ على لئيم! لولا الغضبُ ما وطأتَ حافياً، ولولاهُ ما عبرت، أنضجَكَ الغضبُ وسوّاكَ، فتريّثْ». •لصقر الأيام والميثولوجيا، والشرفات، صالح زمانان: «‏لست على ما يرام. ساعتي لها عقارب ميتة، ‏سوارها جلد ثعبان، ‏معطفي كان تمساحًا، ‏وجلد زوجتهِ حذائي، ‏وقبيلة من دودة القز، ماتت وهي تصنع ما تبقى من ثيابي. هذا الباب، ‏وهذا السرير، ‏هما ما تبقى من شجرة بلوط. وجدران غرفتي الموحشة مصلبة الحصى والرمال! ‏لست على ما يرام، أنا مقبرة القتلى». •لقلادة القصيدة المفاجئة، روان طلال: «ترارٌ دائم لكلمة واحدة، يمرّنها الوقت لتخرج في كل مرة، بوقع جديد. تمرين مكثف، ليخرج الليل من كهفه، مرة باتجاه الضوء، المنتظر لرفيق قديم، ومرة باتجاه الوحيد، يعيد خلق هزائمه». •للروح المخضبة بالمواسم والقرب، محمد الحرز: «ما كان لي أن أكون كما تريد، يا أبي! عرفتُ ذلك يوم جلبت إلى المنزل غيمة، أوشكت على الموت، بعدما اصطدم مطرها بطائرة مسرعة «. •لباري الناي، خندق الابتهاج والدموع، إبراهيم الحسين: «نعوي لينهض الباب، ويجمع أخشابه. نعوي لنحفر ممراً لحطبنا المتسعّر، يمر منه إلى دخانه، فلا تكون أشداقنا احتمالاً، ولا نكون بغير ما نحن بهذا العواء». •للهائم في بريّاته، المنفرد بالليل والنجوم، زياد السالم: «الأشجار لا تستطيع مغادرة مكانهـا خـطـوة واحـدة، لذا تنمـو فـي مجموعـات. لا وجـود لشجرة وحـيـدة، فإذا صـادف، ونبتـت فـي الـعـراء.. سـتموت مـن الـحـزن». •لقارب الزرقة، لشباكه في البحر والذاكرة، هاشم الجحدلي: في مساء قديم بين جيمين من جنة وجحيم مادت الأرض بي فتهاويت في الماء بعضي يرمم بعض الرميم شبه مندثر لم يدثر دمي غير هذا العذاب العميم الذي يملأ القلب والطرقات ويسلمني للنهار الذي لم يكن بالتقي ولا بالنقي ولا بالرحيم. •للساري بأرقه، الموغل في الأشجار والغيوم، غسان الخنيزي: «أرى بين كل خطفة نظر لك، وبين تقليبة وأخرى، صور الأشجار بالأبيض، والأسود حيناً، وباللون حيناً! لكن الأصفر ضوء الأشجار، وظلّها في السقف، وفي قاع العين، يصحب حلمي. الحلم الخفيف، الذي لا يأتي إلا حين تبهت الأضواء، وتذوب في أزرق النهار».