رحلة مع الصوت في السينما.

“الصوت يستدعي في أذهاننا صورة، أما الصورة فلا تستدعي في أذهاننا صوتا” روبير بريسون؛ كتاب “ملاحظات في السينما”. أول عرض سينمائي في التاريخ كان على يد الأخوين لوميير في مقهى الجراند كافيه في باريس 28 ديسمبر 1895. وفوجئ المتفرجون بقطار يتجه بسرعة إليهم فتقافزوا هلعا. كان المشهد المخيف صامتا وكذلك كانت المقاطع السينمائية المتنوعة القصيرة. ولأنه لا حوار مسموعا في الفيلم كان المنتجون يلجؤون إلى كتابة عناوين فرعية تنوب عن الحوار أو تشرح الحدث. بدأت الموسيقى المصاحبة بعزف البيانو أو الفونجراف (البيك أب) للتغطية على ضجيج آلة العرض. ولكن بعد ذلك اعتمدت الموسيقى بالعازفين أو المسجلة؛ لتقديم موسيقى تناسب أجواء الفيلم وفترات السكون. وفي عام 1915 قدم عبقري السينما وأبو المونتاج “جريفث” أول فيلم تصاحبه بالكامل أوركسترا تعزف موسيقى اُلفت خصيصا للفيلم. شارك “جريفث” الموسيقار “جوزيف نرنبيرجر” في تأليف الموسيقى، بل وجعل لكل ممثل لحنا (ثيمة) خاصا به. واصلت السينما تطوير نفسها والعمل على أن تكون الأفلام صائتة. وتكللت تلك المحاولات بالنجاح عام 1927 بفيلم “مغني الجاز”. كان هذا فتحا كبيرا في تاريخ السينما، ومع هذا ومع ذلك استمر عدد كبير من المخرجين في عمل الأفلام الصامتة، لأسباب منها رداءة الصوت في بدايات السينما الصائتة مما يؤدي إلى إفشال سلاسة تكوين الصورة، وتشتيت ذهن المتفرج. وكانوا يعتمدون في إبداعاتهم على فنيات التصوير والمونتاج والتمثيل وأشهر مثال هو “جريفث” سابق الذكر إذ قدم 3 أفلام صائتة لم تلق إقبالا كبيرا فأعلن تخليه عن الإخراج. حتى الممثلين لم يستقبلوا الصوت في السينما بترحاب بل بخوف وارتياب إذ هم متعودون على الأداء الصامت بما فيه من مبالغة في تعابير الوجه وحركة الجسم، ثم أن التمثيل يحتاج إلى مران وقدرات للتحكم بالصوت والنبر. تشارلي تشابلن كان فيلمه أضواء المدينة 1931 أول فيلم له بعد دخول الصوت على الفيلم، ولكنه رفض بشدة أن يكون صائتا ولكنه كتب الموسيقى المصاحبة للفيلم ودمجها في شريط الفيلم. وعندما قدم “ميل بروكس” فيلمه سينما صامتة 1976 وهو من نوع المحاكاة الساخرة (Parody) كان يخلو من الصوت البشري (الحوار المسموع) ولكن فيه مؤثرات صوتية وموسيقى مصاحبة وجعل ممثل البانتومايم الفرنسي الشهير ينطق الكلمة الوحيدة في الفيلم “لا” (No)! والصوت في السينما يتمثل في ثلاثة جوانب: الموسيقى المصاحبة (التصويرية)، والحوار، والأصوات المحيطة أو ما يعرف بالمؤثرات الصوتية. ويُشترط في قاعة العرض أن تتميز بالعزل عن الضوضاء الخارجية. والعزل عن الضوضاء الداخلية (أصوات الآلات والمكيفات.. إلخ). والعزل عن ترداد الصوت (الصدى) (تقنيات الصوت في السينما؛ بيير-أنطوان كوتون). الموسيقى: “الموسيقى هي أبرز هدية للسينما الناطقة وليس الحوار، فالموسيقى المناسبة والمتوازنة بذكاء تؤثر على الحواس وتخلق جوا سايكولوجيا قادرا على مضاعفة قابلية المتفرج لتلقي الإحساسات عشرات المرات” مارسيل مارتن (فن الموسيقى السينمائية؛ د. إيهاب صبري). شخصيا أرى أن للموسيقى دوراً كبيراً في تنمية الخيال الدرامي؛ ذلك أني نشأتُ على تمثيليات الأطفال الإذاعية والمسلسلات الإذاعية للكبار في إذاعتي جدة ثم الرياض حيث إن للموسيقى أهمية كبيرة في هذا اللون. للموسيقى دور كبير في صناعة الفيلم والفرجة عليه. ابتداءً كانت الموسيقى وصفية (تصويرية) ولكن بتعددَ استعمال الموسيقى؛ فأحيانا تكون الموسيقى في تباين مع المشهد كما في أفلام تشارلي تشابلن ولعله من ابتدع هذه الطريقة فترافق المشهد الهزلي موسيقى عاطفية حالمة. ومن هنا يطرح البعض تسمية “الموسيقى المصاحبة” بدلا من التصويرية. وتخصص كاثرين كالينك” الفصل الأول -تقريبا- من كتابها “موسيقى الفيلم” لمناقشة الأثر النفسي لأغنية “أنا وأنت بين المطرقة والسندان” (Stuck In The Middle With You) في مشهد تعذيب مريع من فيلم “كويتين تارانتينو” 992 Reservoir Dogs : “لحنها المرح، وإيقاعاتها المألوفة، وكلماتها التافهة، وتناغماتها البسيطة القابلة للتنبؤ في تناقض الطبيعة المروعة للمقطع”. وفي أحيان كثيرة تظهر الموسيقى المصاحبة مع نزول العناوين لتهيئ جو الفيلم العام للمتفرجين. وبعض المخرجين يرون أن الموسيقى يجب أن تكون متواريه فينتبه المتفرج للصورة ولا يلاحظ الموسيقى إلا عندما يتوقف الحوار. كما تقوم الموسيقى بتحديد معالم الشخصية من تكرار الأنغام المصاحبة كما في الفيلم الهزلي الجميل “احترس من الخط” 1984 فتصحب موسيقى “بينك بانثر” مشاهد الضابط رشاد (أسامة عباس). ومن وظائف الموسيقى تعزيز تأثير المشهد وتزيد من شحنته العاطفية، كما في مشهد قصف قرية فيتنامية في الصباح الباكر بالنابالم في فيلم 1979 Apocalypse Now حيث يقود العملية ضابط مهووس بالقتل ويقوم بعملية القصف على أنغلم مقطوعة Ride of the Valkyries من أوبرا لريتشارد فاغنر. ويصبح هذا المشهد من أقوى المشاهد السينمائية. والموسيقى يمكن لها تكون مأخوذة من معزوفات مشهورة أو أغنية داخل الفيلم أو تكون -وهذا الأعم والأشهر- مؤلفة خصيصا للفيلم. في وقتنا الحاضر يعامل المؤلف الموسيقي بصفته نجما، وصارت بعض هذه المقطوعات المؤلفة من كلاسيكيات الموسيقى مثل “أنشودة لارا” من تأليف “موريس جار” (فيلم دطتور زيفاجو 1965) وموسيقى فيلم دمي ودموعي و ابتسامتي 1973 (إلياس رحباني). بقي أن نشير إلى الفيلم الغنائي (Musical) وهو فيلم تنتظم فيه الأغنيات في خيط درامي بسلاسة لا حشرا لها في مشاهد الفيلم. الصوت: ونعني هنا الصوت البشري (حوار الفيلم) أو الراوي. الكلام هو محتوى الحديث فحسب وهناك جوانب غير لفظية نستخدمها في لغتنا اليومية كما إنها مهمة في كل أنواع الدراما ونعني بها: نبرة الصوت، ودرجة حدته، ودرجة علوه وحدته ودرجة تدفيق الكلام واللعثمة. كما أن المشاعر يمكن نقلها عبر هذه الخصائص خلال الكلام. كذلك طريقة الكلام تفرق من السؤال والتقرير.. إلخ. ممثلو الإذاعة على وجه الخصوص عليهم أن يتقنوا هذه الخصائص ويتمرنوا عليها. ويشار دائما إلى أن تحكم “أورسون ويلز” الفذ بصوته ما هو إلا نتيجة لعمله في الدراما الإذاعية. هناك مصطلح دخل الرواية والأعمال الدرامية هو “البوليفونية” (polyphony) وهو مصطلح موسيقي بالأساس يعني تداخل لحنين مختلفين مع بعضهما البعض أثناء الموسيقى أو الغناء مثل ابتهال “ مولاي إني ببابك” أداء الشيخ النقشبندي وألحان بليغ حمدي؛ حيث يتواكب إنشاد الكورَس مع إنشاد النقشبندي معا في مسارين لحنيين مختلفين. دخل هذا المصطلح للرواية على يد المنظر الروسي ميخائيل باختين في وصفه أعمال دوستويفسكي بمعنى أن الرواية البولوفونية “هي التي تعتمد على تعدد المواقف الفكرية واختلاف الرؤى الأيديولوجية وترتكز كذلك على كثرة الشخصيات والروايات السراد والمتلقين، وتستند إلى تنوع الصيغ والأساليب، وتوظيف وحدة (الزمان والمكان) وتشغيل الفضاءات الشعبية الكرنفالية في حين نجد الرواية التقليدية رواية أحادية الصوت، يتحكم فيها الراوي الواحد” (د. رمضان بسطاويسي، كتاب: تعدد أصوات الراوي في سيناريو الفيلم السينمائي تأليف د فدوى ياقوت). وترجم المصطلح خطأ بـ “تعدد الأصوات” ولكن السائد هو “تعدد الرواة” أو “تعدد صوت الراوي”. وتفرق د قدوي في كتابها العميق بين نوعين فتقول: “ وإذا كان مصطلحا الراوي والسارد في اللغةِ العربيةِ يقابلهما في اللغةِ الإنجليزية مصطلحٌ واحد أساسي هوThe Narrator، فإن اللغةَ العربيةَ تتميز بأنها تفرِّق بين المصطلحين عبر التمييزِ بين وظيفةِ كلٍّ منهما، إذ في حين يكتفي الراوي بنقلِ الحديثِ وروايةِ الخبرِ، يقوم الساردُ بتنسيقِ الحكي، ومتابعتِه بتقدمتِه شيئاً إلى شيء، بعضَه في إثْرِ بعض.” والتفاصيل الكثيرة المنبعثة من هذه العبارات القليلة تظهر في 250 صفحة من القطع الكبير وهو كتاب مهم لكل من يتصدى إلى كتابة السيناريو أو الحوار. المؤثرات الصوتية: ويقصد بها الأصوات المحيطة بنا والحيطة بمشاهد الفيلم: صوت فتح باب، وقع المطر، طلقة رصاصة، انفجار قنبلة، هدير رعد، آلة طابعة وحفيف أوراق.. إلى مئات الآلاف من الأصوات. ويعرف هذا بين السينمائيين بـ الفولي (Foley) نسبة إلى “جاك فولي” الشخص الذي بدأ هذه الصنعة فنُسبت إليه. الحوار يُسجل في نفس وقت التصوير ومكانه، وأحيانا قليلة يتم عمله لاحقا. أما المؤثرات الصوتية فهمي كما الموسيقى المصاحبة تضاف بعد التصوير. يقف فنان “الفولي” أمام الشاشة وبقربه ميكرفون الصوت أمامه وحوله عدته فيصدر أصواتا تشبه وقع حوافر الخيل وسقوط المطر وهسيس الرياح وغيرها. ومنذ بدأ فولي وحتى الآن يستمر فنيو هذا النوع من العمل اشكالا جديدة ووسائل متجددة. وعلى فنان الفولي أن يكون متقنا لعمله إذ أن وقع الخطوات على سطح أملس غيرها على الرمل أو قطع الحصى الصغيرة. وكثيرا ما يضطر الفني “الشاطر” إلى المعاناة والسفر لتسجيل أصوات طبيعية بعينها لطيور أو حيوانات وغير هذا. والآن توجد مكتبات إليكترونية كبيرة يستعين بها فني المؤثرات إلا أنه لا يستغني عن الوسائل التقليدية. وتفتقر المكتبة العربية لكتب في هذا المجال ولعل أشهرها -أو واحدها- كتاب “فانيساثيم أمينت” فولي جريل: فن أداء الصوت للأفلام والألعاب والرسوم المتحركة” ترجمة أحمد إسماعيل الهواري. الترجمة العربية 2022 من دار “يتخيلون”. الصمت: كما الليل والنهار لا يكتمل الحديث عن ضوضاء النهار إلا بالحديث عن سكون الليل. هكذا الصوت في السينما ففي الفيلم ربما توجد فترات صمت كامل يتعمد المخرج وجودها للوصول إلى الآثار الدرامية والعاطفية التي يتوخاها من الصوت بأنواعه. قد يختار أن يكون نزول العناوين بلا صوت على شاشة معتمة في قاعة مظلمة يلفها الصمت إن رأى أن هذا يهيئ المتفرجين للجو العام. أو فترات صمت أثناء حوار، أو لحظات خوف وترقب. وأحيانا تكون لحظة الصمت مفاجئة أثناء عزف أغنية أو رقص لسبب ما أوجب السكوت مثل دخول مدير مدرسة أو معلم حازم فيه طلبة يصخبون ويعبثون. التعامل مع الفترات الصمت يتم بعناية كما التعامل مع الصوت بأنواعه المذكورة.