الطريق إلى وادي «عبقر».

مفهوم «العبقرية» يكاد يكون هو الأكثر تداولاً على ألسِنة الناس في مجال الحياة اليومية، حينما يريدون وصف إبداع أو عمل شخص بأنه يفوق فِعل البشر. والواقع أن أصل كلمة «العبقرية» يؤكّد هذا المعنى؛ فكلمة «عبقري» genius ترجع إلى الأصل العربي «جِنّي» genie، وكانت العرب تعتقد أن العبقري ينتمي إلى وادٍ تسكنه الجِنّ، يُسمّى «وادي عبقر»، وهو وادي يقع في الجزيرة العربية، واختلف الرواة حول تحديد موقعه، فمنهم من قال إنه في منطقة «نجد»، ومنهم من قال في «الحجاز»، ومنهم من قال في «اليمن». وعندما نتساءل عن القاسم المُشترَك بين شخصيات مشهورة على مستوى العالم، في مجاليّ العلوم والفنون، من أمثال: المتنبي وهوميروس ودافنشي وابن سينا وشكسبير وتولستوي وابن رُشد وجاليليو ونيوتن وابن خلدون وداروين وماري كاري وانشتاين وابن حيّان وغيرهم، فإن هذا السؤال يقودنا لمحاولة تحديد تعريف واضح للعبقرية. وقد اختلف العلماء في ذلك، غير أن ما يشترك هؤلاء العباقرة حوله، هو أن العبقرية: تُشير إلى الفرد الذي تظهر عليه قُدُرات استثنائية عقلية أو إبداعية، سواء كانت هذه القُدُرات فِطرية أو مُكتسَبة أو كلا الأمرين معاً، مع ضرورة أن يُقدّم العبقري طرحاً علمياً أو ابتكارياً أو فنياً أو ثقافياً، يعمل على إحداث نقلات نوعية في حياة البشر وأفكارهم ومُمارساتهم. وترجع ملاحظة الناس عامّة والمُربّين خاصّة للفُروق بين الأفراد في الذكاء إلى أقدم العصور، إذ لاحظوا فُروقاً من حيث قُدُراتهم ومواهبهم المختلفة. لكن قياس مستوى الذكاء بالمعنى العلمي الدقيق، لم يبدأ إلا في مطلع القرن العشرين، على يد العالم الفرنسي «الفريد بينيه» Alfred Binet، ثم طوّر هذا المقياس العالم الأمريكي «لويس تيرمان» Lewis Terman، ووضع مقياسه الشهير «ستانفورد - بينيه «، وستانفورد Stanford هي اسم الجامعة التي كان تيرمان يعمل بها في ذلك الحين. لكن أحد الأخطاء الكبيرة في تاريخ قياس الذكاء، التي ارتكبها علماء النفس، حدثت عندما أطلقوا صِفة «عبقري» على الشخص الذي حصل على درجة عالية على مقياس الذكاء.. إذ أن هذا الخطأ كان يعني أن كلّ فردٍ نال هذه الحصيلة المرتفعة سيصبح نجماً يُشار إليه بالبنان، نتيجة جُهد عقلي يهزّ به العالَم! ولمّا لم يحدث شيء من هذا – وهو أمر مُتوقّع – فإن الوالدين الفخورين بمثل هذ الطفل خابت آمالهم، كما خاب أمل الطفل نفسه. ولذلك فإن الأنسب علمياً أن يُسمّى أمثال هؤلاء «بالموهوبين»، والاحتفاظ بوصف «العبقري» لأولئك الذين يتميّزون بالذكاء المُبدع من بين هؤلاء الموهوبين. ولقد عرّف مكتب «وزارة التربية والتعليم الأمريكية» الموهوبين talented، بأنهم: الأطفال الذين يملكون إمكانيات غير عادية، تظهر في أدائهم المُتميّز، والذين يتمّ تحديدهم من خلال خُبراء مؤهّلين، وممّن لا تخدمهم مناهج المدارس العادية، وبحاجة إلى برامج مُتخصّصة، ليتمكّنوا من تطوير قُدُراتهم وإمكانياتهم، في المجالات الأكاديمية والقيادية والإبداعية والابتكارية. ومع أن الكاتب الساخر «محمود السعدني» يقول: «إن الموهبة كالجريمة، لا بدّ أن تنكشف يوماً ما»، إلا أن الكاتب الأمريكي «جون ماكسويل» John Maxwell، في كتابه «الموهبة لا تكفي أبداً» Talent is Never Enough، سلّط الضوء على أهميّة «الشغف»، ضمن عوامل أخرى، وأنه ليس فقط مُكمّلاً للموهبة، بل في كثير من الأحيان، هو العامل الحاسم الذي يدفع الموهبة إلى أعلى مستوياتها من التعبير والفعالية. وعندما برز السؤال الذي يقول: ماذا عن القُدرة العقلية للعبقري؟ ولو أمكننا قياس مستوى ذكاء العباقرة عبر التاريخ، فما الحدّ الذين كانوا يصلونه؟ وفي مُحاولة للإجابة؛ أجرى العلماء دراسات ميدانية مُستفيضة، خلُصت إلى أن العبقري لو قيس ذكاؤه وهو طفل، لتبيّن أنه في عِداد الأطفال الموهوبين حتماً. ولكن عكس هذه النظرية غير مُمكن، بمعنى أنه ما كلّ طفل يُظهر قياس ذكائه أنه موهوب سيكون عبقرياً أو مشهوراً. فالعباقرة لا يتّصفون بشِدّة الذكاء فقط، على حدّ تعبير عالم النفس «تيرمان»، بل يُضيفون إليه صِفات: المُثابرة والجُهد والوثوق بقُدُراتهم والإبداع والابتكار. ويؤيّده في ذلك المخترع الشهير «توماس أديسون» Thomas Eddison، حين قال: «إن المُثابرة والكدّ والصبر هي أسباب النجاح، وأن نسبة الوحي والإلهام هي 1% ، و99% عرق جبين». وثمّة عامل مُشترَك آخَر في حياة العباقرة، وهو أنهم يُربَّون عادةً في بيئة تستطيع فيها مواهبهم الخارقة أن تزدهر، وكذلك فإن كثيراً ما كان الحظّ يتدخّل ليُهيّء لهُم مثل هذه الظروف. إن الموهوبين هم عُدّة الأُمم، والأُمّة الذكية الواعية هي الأُمّة التي تحرص على اكتشاف الموهوبين من أبنائها، وتستثمر فيهم؛ فتُفسح لهم المجال لكي يُحقّقوا إمكانتهم، ويُظهروا كفاءاتهم، فيُفيدوا ويستفيدوا. ولا شكّ أن البيت الصالح والمدرسة الجيّدة، هُما البوتقتان الأساسيتان اللّتان تنصهر فيهما المعادن الثمينة، وتبرز المواهب الكامنة. فإلى البيت والمدرسة يجب أن تتّجه العناية والرعاية لتربية هؤلاء الموهوبين، وتهيئة البيئة المُحفّزة لنبوغ العباقرة، وإلا فإن الأُمّة ستُهدر أثمن كنوزها، وتتخلّى عن طليعتها في طريق التقدّم والنجاح.