عبدالعزيز السالم رجل الدولة.. ورجل التربية والفكر.

في مقال بعنوان « الموهبة.. ودَورُها في الحياة»، نشرته جريدة الرياض في 2 محرم 1415 هـ، الموافق 11 يونيو 1994 م، يقول عبدالعزيز السالم- والمقال موقع باسم مسلم بن عبدالله المسلم-: « الكتابة موهبة وهي ليست كما يظن بعض من يتراءى لهم أنها تمثل ترفاً في الممارسة لا تحتاج إلى جهد مبذول وعناء متواصل. هذا تصور إنسان لم يزاول هذه التجربة الفكرية ولم يتعامل مع الكلمة المكتوبة. فالكتابة الجادة في حقيقتها نزفٌ ومعاناةٌ وجهدٌ ذهني مرهق. ولا شك أن إرهاق الفِكر أشدُ أثراً على النفس وأعمق تأثيراً من إرهاق الجسم ...». والواقع أنه- أي عبدالعزيز السالم- قد بدأ رحلته مع الكتابة ومع “إرهاق الفكر” قبل ما يزيد على خمسة وأربعين عاماً من تاريخ ذلك المقال، إذ نشرت له صحيفة “البلاد السعودية” في مطلع عام 1371 هـ- أواخر عام 1951 م، مقالة طويلة جداً- بعنوان “مطالب نريدها من منهج التعليم- مهداة إلى مجلس المعارف”، شَخَّصَ فيها واقع التعليم في المملكة آنذاك وتطرق إلى عيوبه ومواطن الخلل فيه وواقع المؤسسات التعليمية آنذاك، وألح في أكثر من موضع في المقالة على ضرورة تحديثه وأرفق في نهاية مقالته عدداً من المقترحات العملية، وختمه بالقول: “وبعد فهذه مطالب أو نقاط لها مساس بحياتنا التعليمية أرجو أن تُدرس في ضوء الواقع وفي ضوء التيار الفكري المعاصر وأرجو كذلك أن لا تعدم التطعيم بالمصل الحيوي الذي يبعث فيها الروح”. وقد علقت الصحيفة على تلك المقالة بالقول: “نعتقد أن وجهات نظر الكاتب الفاضل وجيهة وتستحق من مجلس المعارف كل عناية بدرسها وتحقيقها. ونؤكد مع الكاتب ضعف المدرسين الابتدائيين واضطرارهم للطلبة (إلى الدروس الخصوصية) من أول العام. وهذا أمر خطير بالنسبة لرسالة التدريس نفسها وبالنسبة لأولياء أمور الطلبة الفقراء. ومعنى هذا أن المعارف تنفق على التعليم في الهواء”. كان ذلك قبل أكثر من عامين من إنشاء وزارة المعارف وتعيين الأمير فهد بن عبدالعزيز- خادم الحرمين الشريفين الملك فهد فيما بعد- وزيراً لها، وهو الوزير- ثم الملك- الذي تلازمت مسيرة السالم العملية مع مسيرته رحمه الله مدة تجاوزت أربعة عقود، في وزارة المعارف ثم الداخلية ثم في مجلس الوزراء. بعد عام ونيف من تاريخ نشر ذلك المقال أصدر ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز في شعبان 1372 هـ، الموافق لشهر مايو 1953 م أمراً “بتشكيل هيئة من كبار رجال التربية والتعليم برئاسة فضيلة مدير المعارف العام الشيخ محمد بن مانع للقيام برحلة تفقدية على جميع مدارس المملكة للتفتيش عليها والوقوف على سير أعمالها وتوجيهها ووضع الخطط والمقترحات اللازمة لتحسين حالة التعليم العام” وحسب الخبر المنشور عن هذا الأمر قامت الهيئة برئاسة مدير المعارف العام في أوائل شهر جمادى الثانية 1372 هـ وعضوية خمسة من كبار مسؤولي مديرية المعارف برفقة طبيب بتلك الجولة التفقدية في عدد كبير من مناطق ومدن وقرى المملكة؛ وحسب ما ورد في الخبر “اختير الأستاذ عبدالعزيز السالم سكرتيراً للهيئة”. شملت رحلة أعضاء الهيئة بواسطة السيارات مكة المكرمة ورابغ وينبع والمدينة المنورة وحائل ومنطقة القصيم (بريدة وعنيزة) ومنطقة الوشم وسدير والرياض وضواحيها والخرج وملحقاتها والحوطة ثم المنطقة الشرقية (الظهران والأحساء) ثم عادت إلى الرياض، وتشرفت بالسلام على جلالة الملك عبدالعزيز وعلى ولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز ثم رفع مدير المعارف العام ... “التقارير الضافية عن هذه الرحلة” التي “حازت الرضاء العالي والثناء التام” كما ذكر الخبر. ولا أشك هنا في أن عبء إعداد تلك التقارير كان على كاهل سكرتير الهيئة الشاب عبدالعزيز السالم، ذي العشرين عاماً آنذاك. لم يكن مقال “مطالب نريدها ..” الذي لا أبالغ إذا ما قلت إنه ساخن ومهذب في الوقت نفسه الأول مما نشر لعبدالعزيز السالم عام 1371 هـ، إذ تبعته بين شهري صفر وجمادى الثانية من ذلك العام مقالات بينت عمق تفاعله مع الواقع التعليمي والثقافي في المملكة آنذاك، ولعل عناوينها تغني عن التعليق عليها أو إيراد مقتطفات من نصوصها، وأجملها في الآتي: •“تعليقات محلية: واجب تؤديه مكتبة الثقافة”، يثني فيه على ما تقدمه مكتبة الثقافة في مكة لصاحبها صالح محمد جمال من خدمات للمثقفين ولمحبي الثقافة وللمجتمع، وقد نشرت احدى الصحف تعليقاً بقلم صالح جمال مشبعاً بالتأثر والامتنان على ذلك المقال. •مقال طويل رأت صحيفة “البلاد السعودية” نشره في صفحتها الأولى واحتل معظم حيز الصفحة- ثلثيها تقريباً- بعنوان: “تحت مجهر الحقيقة: ينقصنا التنفيذ”. وكانت تلك المرة الأولى التي يختار فيها السالم عنواناً ثابتاً لمقالته. •“تحت مجهر الحقيقة : مدرسة المعلمين الليلية” ، في 23/5/1371 هـ - “تحت مجهر الحقيقة: مؤسسة الثقافة الشعبية” في 10/6/1371 هـ ويضاف إلى ما تقدم مقالات في تلك الزاوية شملت قضايا متعدد، تراوحت بين الاجتماعي- مثل “زواج وتقاليد!!”، والاقتصادي- “الزراعة والمزارعون”، والمعيشي- “الغلاء وحله الطبيعي-؛ وسبق كل تلك المقالات مقال يمكن أن أصفه بالفلسفي، بعنوان: “لو سّعِدَ هؤلاء”، وهو أول مقال ينشر في الصحافة السعودية بقلمه، حسب علمي. وفي منتصف العام التالي- 1372 هـ-، صدر قرار بترقية السالم إلى وظيفة سكرتير الهيئة الإدارية والبعثات بمديرية المعارف العامة، وبقي في تلك الوظيفة حتى تأسيس وزارة المعارف بالمرسوم رقم 5/3/26/4950 في 18 ربيع الثاني 1373 هـ، وتعيين الأمير فهد بن عبدالعزيز وزيراً لها. هذه الوزارة الجديدة في مطلع عهد الملك سعود حلت محل مديرية المعارف العامة؛ وانتقل عبدالعزيز السالم بذلك إلى مجال مماثل لمجال عمل فيه وتاق إلى تطويره، ولكنه مجال أرحب، إذ عُين سكرتيراً لإدارة التفتيش الفني بالوزارة وأصبح يشارك ضمن وفود الوزارة في اجتماعات خارج المملكة، ومن ضمنها اجتماعات اللجنة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية، حيث شارك في دورتها العاشرة في ربيع الأول 1375 هـ- الموافق لشهر نوفمبر 1955 م، وكانت الدورة التي سبقتها عقدت في جدة، افتتحها الأمير فهد ورأسها الدكتور طه حسين. رُقي السالم بعد ذلك بثلاثة أشهر ليصبح مديراً لمكتب وزير المعارف بالنيابة؛ ليعمل مع رفيق دربه معالي الأستاذ إبراهيم العنقري سنداً للوزير الأمير فهد بن عبدالعزيز، ثم عُين بعد ذلك بعامين مديراً عاماً لمكتب الوزير، على أثر انتقال العنقري للعمل بوزارة الخارجية، لفترة دامت قرابة خمس سنوات. وخلال تلك الفترة، كان أبو عصام صلة الوصل الأولى بين الوزارة وكتاب المملكة ومثقفيها، وعايش عن قرب فترة تأسيس الجامعة الأولى في المملكة- جامعة الملك سعود-، بل واستمر بعد انتقاله لوزارة المعارف وهي في مرحلة تأسيس تتطلب بذل قصارى جهود العاملين فيها في مد عدد من صحف بعطاء قلمه، فكتب في مجلة “اليمامة” في عامي صدورها الأولين عدداً من المقالات، وواصل الكتابة لصحيفة “البلاد السعودية”، بل وجرب حظه في كتابة القصة القصيرة، حينما شارك في المسابقة الأدبية التي نظمتها الصحيفة في ربيع الأول 1373 هـ، بمناسبة قرب صدورها اليومي، تزامنا مع مطلع عهد الملك سعود، ونُشرت القصة بعد ثلاثة أشهر- وكانت واحدة من القصص الست الفائزة بالمسابقة- تحت عنوان “التوصية الفاشلة”. ويبدو أن أعباء المسؤوليات الجسام في وزارة مثل وزارة المعارف لم تتح لأبي عصام مواصلة الكتابة في الصحف إلا على نحو متباعد، أما المضي في كتابة القصة- بعد تلك الدَفعة المعنوية الكبيرة- فلم يتبعه إلا قصة قصيرة أخرى في نهاية ذلك العام؛ قصة بعنوان: “من ألبوم المجتمع: أرقً ليلة”. لم يكن يشبه أسلوب السالم خلال تلك الفترة في طرحه الفكري والغوص في أعماق المواضيع التي عني بها إلا أسلوب الكاتب والمثقف الكبير الراحل اللواء سعيد بن عبدالله الكردي، الذي برع في تحليل التيارات الفكرية والأيديولوجية التي كانت مضطرمة آنذاك في العالم عموماً وفي العالم العربي على وجه الخصوص، في مقالاته العديدة التي كانت تنشرها صحيفة “اليمامة” بقلمه في النصف الثاني من سبعينيات القرن الهجري الماضي. السالم كان أميل إلى تناول المواضيع الفكرية ذات الطابع التأملي أو الأدبي. وعلاوة على ذلك فإنه لم يدخل في جدل أو نقاش فكري مع كتاب آخرين، اللهم إلا في مقالة واحدة علق فيها على ما كتبه في صحيفة “عرفات” من وصفهما بـ”صديقيه العزيزين” عبدالعزيز الرفاعي ومحمد عبدالقادر علاقي، بخصوص وجاهة المقارنة بين عباس محمود العقاد وأحمد بهاء الدين. بعد مغادرة الأمير فهد بن عبدالعزيز وزارة المعارف وتولي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ مقاليد الوزارة في رجب 1380 هـ- الموافق لشهر ديسمبر 1961 م- وهو أحد رجالات الوزارة منذ تأسيسها وكان قبل ذلك وكيلاً لها- يَمَّم السالم وجهه إلى القاهرة لمواصلة دراسته الجامعية وبقي فيها قرابة سنتين. وبعد تعيين الأمير فهد بن عبدالعزيز وزيراً للداخلية بأمر ملكي صدر في 3 جمادى الثاني 1382 هـ، الموافق 31 أكتوبر 1962 م، عاد أبو عصام ليشغل منصب مدير عام مكتب الوزير. ويبدو أن رغبة الأمير فهد بن عبدالعزيز من جهة، وتوتر العلاقات بين المملكة ومصر بعد الانقلاب في اليمن في 28 سبتمبر 1961 م أسهما في عودة السالم دون أن يكمل دراسة الماجستير، وأقول رغبة الأمير فهد، لأنه- رحمه الله- أمر بأن يبقى منصب مدير عام مكتب الوزير شاغراً لحين عودة السالم من دراسته. من جانب آخر، لا شك في أن أعباء تلك المسؤولية الجسيمة وحساسية الموقع الذي تبوئه قد حالت دون الاستمرار بموافاة الصحف بمقالاته. ومع ذلك فإنه وبحسه التطويري المعروف أولى أمر تواصل الوزارة مع وسائل الإعلام المحلية الأهمية التي يستحقها، إذ استُحدِث في الوزارة “ مكتب النشر والثقافة” لجمع أخبار الوزارة وما تقوم به من نشاطات في جميع المناطق وتوزيعها على الصحف المحلية والإذاعة والتلفزيون، وأسندت إلى عبدالعزيز السالم- حسبما ذكرت صحيفة الرياض في العدد 164، الصادر في 14 رجب 1385 هـ- إدارة المكتب، بالإضافة إلى عمله، وصرَّح السالم للصحيفة آنذاك بأن هذا المكتب جاء “تنفيذاً لرغبة صاحب السمو الملكي وزير الداخلية واهتمام سعادة الأستاذ إبراهيم العنقري وكيل الوزارة بنشر أخبار الوزارة وتركيزها من مصدر واحد، ضماناً لصحتها ودقتها”، ولا يراودني شك في أنه هو من بادر باقتراح استحداث مثل ذلك المكتب. «لم يعد السالم إلى الكتابة في الصحافة المحلية إلا بعد قرابة ثلاثين عاما - في بداية تسعينيات القرن الميلادي الماضي- بعد غزو العراق للكويت وحرب تحريرها- حينما بدأت مقالاته المطولة والثرية تنشر في جريدة الرياض تحت اسم “مسلم بن عبدالله المسلم”، وظل الكثيرون يتساءلون ولسنوات عديدة: من هو ذلك الكاتب؟. ولم أعرف اسمه الحقيقي إلا عندما نشر مقالا من ثلاث حلقات في الصحيفة في شهر ذي الحجة 1414 هـ، الموافق لشهر مايو 1994 م، بعنوان: “عاشق المجد”. وهي مقالات استعرض فيها كتاب “محمد الحمد الشبيلي: أبو سليمان” الذي أصدره أستاذي وصديقي الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي- رحمه الله- عن شخصية السفير الأسطورة وذائع الصيت. سألت الدكتور عبدالرحمن حين نشر تلك المقالات عن الكاتب فأجابني بأنه: عبدالعزيز السالم. والحق أن تلك المقالات الطوال التي استرسل أبو عصام في التعليق على الكتاب فيها وأمتع القراء بما سرده في سطورها تعتبر كتاباُ- أو كتيباً- في حد ذاتها. وبعد، فهذه سطور لم أشأ أن أكرر في ثناياها ما هو معروف عن شخصية وطنية كبيرة- شخصية ثقافية سامقة- مثل معالي الأستاذ عبدالعزيز السالم- رحمه الله-، وهي شخصية نبيلة من هذا الوطن؛ ستظل ذكراها العطرة محفورة في أذهان أبناء بلادنا ونفوسهم. وأثق بأن آخرين ممن عرفوه وعملوا معه في وزارة المعارف أو في وزارة الداخلية أو مجلس الأمن الوطني أو خلال السنوات الطوال التي عمل فيها أميناً عاماً لمجلس الوزراء سيكتبون عنه بعض ما يفي بحقه ويوثق مسيرته. 11 جمادى الأولى 1446 هـ، 13 نوفمبر 2024 هـ