مجدي يعقوب .. جراح خارج السرب..

زارع القلوب والأوركيد.

لا شك أن هذه المذكرات من أفضل ما كتب في مجال السير، ثراء حياة الدكتور يعقوب، وامتداد إنجازاته عبر قارات العالم، وتخصصه في جراحة القلب، العضو الذي دارت عليه أحلام البشر وأوهامهم منذ مطلع الحياة الإنسانية، كل ذلك وضع الرجل في المكان المناسب لتُنسج حوله حكايات واقعية لكنها تشبه الخيال، وقد أتيح للسيرة متخصصون في فن السيرة من الكًتاب الأوروبيين، وهؤلاء تطور عندهم فن السيرة حتى يكاد أن يصبح الفن الذي ترتقي إليه الرواية، وقد أضاف ذلك للكتاب الكثير، وتأتي الإضافات غير الأسلوبية لتعطي للتمدن الأوروبي- والإنجليزي تحديدا- رصيدا جديدا، فهو يرتقي بالموهوبين ويكافئ الجادين، ويحقق لهم فرص النجاح الذي لم يكن ليتحقق إلا من خلال بلادهم، ويبرز قيما غربية إنسانية مثالية يسبقون فيها الآخرين، ويبرز كيف يعيدون إطلاق هذه القدرات والإنجازات لتصبح ملك الإنسانية كلها. إضافة لذلك فقد نجح المترجم أحمد الشافعي في إنجاز عمل لا يقل أهمية وجمالا عن النص الأجنبي. حظى الكتاب بأكثر من مقدمة، وكلها مقدمات تبجيلية مستحقة، لكن ماري آرتشر التي كتبت مقدمة الطبعة الإنجليزية - وهي بالمناسبة زوجة الكاتب الإنجليزي المشهور جيفري آرتشر- كتبت مقدمة متميزة، لخصت في سطورها الأولى صفات الدكتور “ عبقري، مغامر، طبيب ملهم، جراح قلب رائد، عالم صاحب ريادة في الطب الحيوي، صديق رؤساء وملوك ووزراء وفقراء وبائسين، حاصل على ….، وهو على رأس ذلك كله ذو أعمال إنسانية عظيمة، تلك جميعا أوصاف مجدي يعقوب، فإن أضفت إليها زراعة زهور الأوركيد، والولع بالسيارات السريعة، لأدركت وصفا لرجل فريد متعدد الخصال”. أحدث التقدم في زراعة القلب وجراحتها ارتجافا ساحرا في العالم، معظم هذه الجراحات لم تكن ممكنة قبل اختراع جهاز القلب والرئة، إذا كنت تقوم بجراحة في القلب فإن عمله كمضخة توصل الدم الحامل للأكسجين إلى كل خلايا الجسم يتوقف، وإذا استمر هذا التوقف فإن الخلايا تبدأ في التحلل، وقد ينتهي الأمر بوفاة الخلايا، وبعض هذه الخلايا لا يمكن تعويضه، مثل خلايا المخ التي لا تستطيع الاستمرار في غيبة الاكسجين إلا دقائق معدودة، إذن فإننا نحتاج إلى توصيل الدم العائد من الجسم إلى القلب إلى جهاز خارج الجسم يقوم باستخلاص ثاني أكسيد الكربون من كريات الدم، وتحميل الأكسجين بدلا منه، وهذه مهمة الرئتين في العادة ولذا فإن هذا الجهاز يعمل عمل الرئتين، ثم يعاد ضخ الدم من هذا الجهاز إلى أوعية دم المريض الذي تُجرى له العملية، ويتم توزيع الدم المحمل بالأكسجين إلى أعضاء الجسم، وهذا ما يحفظ للجسم بقاءه وحياته خلال جراحات القلب، ولذا فإن جهاز القلب والرئتين هو الجندي المجهول الذي لولاه ما أمكن تحقيق هذه الإنجازات في جراحات القلب. جراحات القلب تتضمن تبديلا للشرايين التي تغذي القلب أو تخرج من القلب إلى الجسم والرئتين، وكذلك استبدال جدران الشرايين والأوردة، وإصلاح الصمامات، والصمامات هي أجسام في مواقع مختلفة في القلب تحافظ على أن يستمر تدفق الدم في اتجاه واحد هو الاتجاه المطلوب، إذ إن الصمام المعطوب سيؤدى إلى تدفق الدم في اتجاهين، أحدهما عكس الاتجاه المطلوب، وهذا يزيد الحمل على مضخة القلب، فتتضخم، وتحتاج إلى مزيد من الغذاء وينقص ارتواؤها وأخيرا تفشل مضخة القلب، وتتأثر أنسجة الجسم، وتتجمع المياه في الرئتين وفي تجويفات الجسم، ومن هنا نفهم الحاجة إلى إصلاح الصمامات أو استبدال صمامات معدنية أو صمامات من أنسجة حيوية بالصمامات التالفة، وبعد ذلك تأتي جراحات زرع القلوب، وهي تعني أخذ القلب من متبرع، والمتبرع عادة إنسان قد مات دماغه ولم يعد منتفعا بأداء قلبه، يجري هنا استئصال قلبه لمصلحة مريض آخر ينتظر، وهنا يجب حفظ القلب الجيد في وضع خاص يمكن من استمرار حيويته حتى تبدأ العملية الأخرى ، ويجب ألا يزيد الوقت عن أربع ساعات بين العمليتين، مما يقتضي سفر الجراح بطائرات بسيطة، وأحيانا بالسيارات إذا تعذر استعمال الطائرة لسوء الأحوال الجوية، وكثير ما تضطر هذه السيارات إلى السير بسرعات خطرة حتى لا يضيع الوقت، كثير من هذه التنقلات تتم في غير أوقات العمل العادية، وتبدأ الجراحات وتنتهي في أوقات الليل التي قد يتبعها العمل في ساعات النهار التالي، ومثل هذه المهام قام بها الدكتور مجدي آلاف المرات، فإذا قدرنا أن هذه البرامج تحتاج تمويلا، وأن التمويل الذي يأتي من هيئة الصحة الوطنية البريطانية يخضع للمساءلة والتدقيق، لأن الإنفاق يخضع للأولويات الوطنية، وتساؤلات البرلمان وتربص الصحافة، وكل هذه المسائل تعرض الجراح وفريقه ومستشفاه للكثير من الضغوط التي قد لا يصمد لها إلا ذوو الهمة العالية، خاصة وأن الدكتور مجدي قد بدأ أعماله في مستشفى قروي وليس في مستشفيات لندن الكبرى، هنا ندرك صعوبة أجواء العمل والتشكيك في الإمكانيات، ولكن هذه الصعوبات تولد التحدي عند المستشفى الساعي للتميز، وهذا ما كان، وقد هيأت له النجاحات المتلاحقة الحصول على تمويل لعمله من مراكز مختلفة، ولحسن الحظ فإن بعض مرضاه كانوا أغنياء فقاموا بالتبرع لمشاريعه، ومنهم من كان مؤثرا فاستعمل مواهبه في تيسير السبل لأعمال مجدي، جيفري ارشر وهو روائي بريطاني مشهور جدا وعضو قيادي في حزب المحافظين. كان يدير المزادات الخيرية الخاصة بتمويل وحدات جراحات القلب التي أنشأها مجدي في كثير من أنحاء العالم، في اثيوبيا ورواندا ثم في مصر. ومن مرضاه كذلك أحد أشهر مقدمي البرامج الساخرة في التلفزيون البريطاني، وقد ساهم في تحصيل الدعم لمراكز الأمل التي دعم مجدي إنشاءها وكان محور أعمالها. في بدايات عمله قضى عاما أستاذا مساعدا في إحدى جامعات شيكاغو، وعرض عليه الاستمرار في العمل هناك، لكنه فضل العودة للعمل في بريطانيا، بين الدولتين فرق في طبيعة الممارسة الجراحية، يتيح النظام في بريطانيا إجراء جراحات حسب اجتهادات الطبيب وموافقة المريض قبل إجراء بحوث كثيرة، في أمريكا عمل الأبحاث مهم قبل أي جراحة، لعل النتائج في أمريكا تكون أكثر دقة ولكن مقدماتها تظل غارقة في النظرية وتستهلك وقتا طويلا. كان مجدي يجري جراحات للأطفال الذين جاؤوا بتشوهات في القلب، وكثيرا ما كان يقبل بإجراء جراحات تكون احتمالات نجاحها قليلة، ولذا كان الجراحون وخاصة في أمريكا يرفضونها، لعل نتائجهم كانت أفضل في بعض الأحيان، ولكن كان ذلك على حساب مرضى يُحرمون من الفرصة، ولذا فإن هؤلاء المرضى كانوا يتوجهون اليه، يقبلون بالنجاح المحدود، بدون العملية أيامهم في الحياة معدودة، ولكن الأمل كان يعزز احتمالات النجاح، إنها إرادة الحياة. جراحات زراعة القلب بدأت قبل أن يتم اكتشاف الأدوية التي تقلل من المناعة، نسبة من الفشل كانت تعزى إلى رفض الجسم لها، بعد اكتشاف دواء السيكلوسبورين الخافض للمناعة أصبحت النتائج أفضل، وإن بقيت مجموعة من المرضى يعانون من إصابات إنتانية مميتة بسبب نقص المناعة، وقد أجرى لإحدى الفتيات جراحة تَحَمّل، بمعنى أن ينقل لها قلب إضافة إلى القلب الذي لديها فيقسم العمل بين القلبين، هذه الفتاة أصيبت بسرطان الغدد الليمفاوية بسبب الأدوية الخافضة المناعة، وهنا قرر مجدي استئصال القلب المزروع، بعد عشرة سنوات من الراحة التي أخذها القلب الأصلي عاد إلى العمل بكفاءة تامة، ولم تعد تحتاج إلى خوافض المناعة. وشفيت من السرطان. المرضى الذين لم يعودوا قادرين على الحياة بسبب تكيس الرئتين، يحتاجون إلى عمليات لتغيير القلب والرئتين، والبديل يكون من نفس المصدر، كان مجدي يعمل هذا العمليات، ويأخذ القلب المريض في زرعه لمريض آخر، سميت تلك جراحة الدومينو، كما أصبح يستخدم صمامات القلوب الذي يستأصلها ليستعملها عند مرضى آخرين. كل هذه الجراحات كانت تصبح حكايات مثيرة في الصحافة، ويصبح المرضى نجوما خاصة عندما يطول بهم العمر ويمارسون حياتهم الطبيعية، وحتى عندما يموتون، يشارك بعضهم مع طبيبهم في سباق الماراثون الذي يخصصونه لجمع التبرعات للمرضى الفقراء، الدكتور يقطع زهور الأوركيد من حديقة منزله، تباع لصالح المركز. بعض العمليات قد يتدخل القضاة للتحقيق في مشروعيتها، ونتائجها، لكن لم يظهر منه إهمال أو تقصير، لا يعود إلى بيته حتى يكون قد مر على مرضاه مهما تأخر الوقت، تصبح علاقته بمرضاه أشبه بالعلاقة العائلية، صبي أثيوبي تمكن أهله من إيصاله حتى يلقى رعاية الدكتور، احتاج أوقاتاً طويلة حتى ينال الرعاية الطبية، أصبح يعيش مع الدكتور في بيته، ويراهما الناس يمارسان رياضة المشي في الحديقة، وها هو الشاب يتعلم الطب في بريطانيا. وكذلك استمد يعقوب من تجربته وخياله ودراسته أفكارا أفادت العاملين في الطب التجديدي المستقبلي. مشروعاته في مصر زادت شعبيته في بلده بسبب حاجة الناس وفقرهم، إذ بعد ظهوره في برنامج “صباح الخير يا مصر” التلفزيوني، جاء الناس بالآلاف يقفون في طوابير أمام المستشفى يبحثون عن حل لقلوب أطفالهم، وهنا جاءت فكرة امتداد مشروع الأمل الذي امتد من بريطانيا لدول أفريقية ثم الى بلده مصر، ولعل هذا مما أثار تقدير العالم، فقد قام بمهامه الإنسانية على أكمل وجه وفي أكثر من مكان، ولم يعد هناك تحفظ على أن يحظى بلده بما حظيت به بلدان أخرى من رعايته. من أكثر ما يلفت النظر في هذه السيرة، أن بناء فريق العمل كان لديه على أتم ما يمكن، أفراده يختارون لكفاءتهم، وحماستهم للعمل الصعب، بعضهم جاء من أماكن مختلفة ليتدرب عنده فأصبح جراحا مهما أو خبيرا طبيا وإداريا في فريقه، وبعضهم كان مريضا أجريت له جراحة ناجحة على يد مجدي وفريقه، وساهمت كتاباته هو وفريقه في نقل التجربة إلى العالم، وفي المراكز التي افتتحها ضمن سلسلة الأمل الخيرية ومنها مصر، أصبح الفريق العامل في مركز أسوان جميعه من العناصر المحلية التي جرى تأهيلها ضمن هذه المراكز أو ضمن برامج تأهيل مشتركة بين مراكزه أو مع مراكز أخرى، يقول أحد زملائه ممن عمل معه في هناك “أن فكرته تمثلت في توظيف شباب حتى يترك إرثا طويلا، والسبب الآخر لتوظيف الشباب هو أن الجراحة في مصر كانت قائمة على تراتبية صارمة تحتل المدرسة العتيقة المستويات العليا منها، فأراد مجدي أن يدرك الشبابَ قبل أن يتعلموا الأساليب القديمة”. ولعل نفس الفكرة كانت وراء إقدام المستشفى على إلزامه بالتقاعد في سن الخامسة والستين، رغم أن الاستثناء كان ممكنا، ولكن الغيرة تكمن في التفاصيل، ورغم ذلك فقد استطاع مواصلة مهامه وفي أماكن كثيرة، وما زال، رغم مرور عشرين سنة على تقاعده. ما زال هناك الكثير مما يقال عن الكتاب، الحافل بالمتعة والمعلومات.