قراءة في مجموعة حسن البطران الجديدة (وصال وستائر لا يبللها الماء)..

بين الكثافة والرمز والمفارقة وانكشاف المستور وغموض الدلالة وفلسفة الرؤيا وآفاق التأويل وتأصيل جماليات هذا الفن.

يستلفت النظر في هذه المجموعة أنها جاءت منسجمة مع تراث كاتبها القصصي الذي امتلك مهارة إبداعية متخصصة في مجال القصة القصيرة جداً ، ولعل تسلسل عناوينها تحت مسمىً واحد (الستائر) يومئ إلى وحدة الرؤية و المنظور ، ما يجعل منها وحدة عضويّة تتجاوز الثيمات التقليدية إلى آفاق جديدة واسعة ؛ و غموضها وطاقتها الرمزية يفسحان المجال لاتساع فضائها التأويلي ، وهو سمة رئيسة من سمات هذا الفن الذي يتّصف بدرجة انزياح عالية ، و بالمفارقة و التكثيف وبلاغة الإيجاز وانفراج زوايا التّلقي بلا حدود اتساقاً مع مرحلة (ما بعدالحداثة) وخصوصاً التفكيك الذي يستلزم عدّة وعتاداً من الصبر و التأمّل العميق و التلبّث عند كل مفردة و سبر أغوارها في سياقاتها التركيبية و ثرائها وحمولتها الدلالية. أما (وصال) العتبة الرئيسة للمجموعة فهي التي تكون مع العنوان الفرعي (الستائر) المفارقة الرئيسة مدخلا لفهم النصوص في المجموعة ، واللافت استهلال الكاتب للمجموعة بتوضيح معنى الستائر محددا وظائفها الثلاث : حجب النظر و الضوء واتقاء الشمس ، وهي البوابة الرئيسة التي ينطلق منها استكشاف الرؤيا واقتناص الدلالة. وقد أتبع ذلك بتوضيح آخر يتمثل في عبارته التي تشير إلى العمق الفلسفي لهذه المفردة (الستارة) التي يتساءل عما إذا كانت تثير غضب الآخرين؛ و أعتقد أن هذه إضاءة أخرى ، وفي التأمل المبدئي لهذه المفردة في ضوء النصوص التي انطوت عليها المجموعة تشير إلى (التّقية) ليس بمفهومها الشرعي ولا بامتداداتها المذهبية ولكن بعلاماتها الاجتماعية و النفسية و الأخلاقية و الفكرية افتراضاً غير جازم واستشرافاً غير مُلزم .وتأتي العبارة الاستهلالية الثالثة متعلقة بكاتبها (اختباء الكاتب وراء ستائره وإن بانت بعض أطرافه) الأمر الذي راكم الغموض وفتح ثقباً للرؤية وإن كان محدوداً . تنتظم كل مجموعة من النصوص في ستائر متسلسلة مُرقّمة تدور حول محور واحد ، ففي المجموعة الأولى المرأة هي المحور و قطباها شرف الفتاة والتستر على التفريط فيه ، ففي النص الأول الذي تسارع فيه السّرد مًفتَتحا بالتساؤل؟ مُتلفِّعاً باللون الرامز (الأرجواني) في انفتاحه الدلالي الشهوة و دم العفة ، منتهياً بالرمز التنويري (الحشرة ) والصرخة التقريرية الصادمة ؛ حيث جمعت القصة بين الكثافة و الرمز و المفارقة وانكشاف المستور و غموض الدلالة ؛ و قد امتدت هذه الظواهر الجمالية على مدى المجموعة ، وقد سلّط النص الثاني من هذه المجموعة الضوء على الأولى في شكل سرد خبريٍّ يدور حول المحور ذاته مثيراً لأسئلة فيها كناية رامزة للتفريط في العفة و إسدال الستار على الفعل الفاضح (القبلة و النهد والمهمة) تأكّد ذلك عبر الضلع الثالث في هذه الستائر، وصية الأب حول الحفاظ على الشرف تحت عنوان (خزانة) ومآل هذه الوصية التي وصفت بالصُّفرة و الذبول وذكره اسمي ( نهيدة) إشارة إلى النهد وما يرمز إليه من مظاهر الفتنة النسوية و(صالح) بما ينطوي عليه الاسم من مفارقة مع الفعل المنكر . في الستارة الثانية يسير على نفس النهج ، تجسيد للتجريد وتقييد للمطلق وتمثيل الدلالة ؛ بمعنى أن مفهوم الخطيئة و النجاة منها مفهوم مطلق ، وفكرة ومعنىً يجري تجسيدهما فعلاً وسلوكاً وانتقالاً من الخبريّة إلى السرديّة و من التقرير إلى التصوير، و الرؤية تنداح في تجلٍّ عبر ثلاثة نصوص ترسم أبعادها : النص الأول بعنوان (قوة) في سطر ونصف ، كلُّ مفردةٍ من مفرداتها تختزن تفاصيل مضمرة ، فالقوّة هنا تتجاوز المعنى المعروف حيث يتداعى السياق بمحمولات دلاليّة تتمثّل في القدرة على مقاومة الإغراء و السحر الأنثوي ومحفّز الشهوة الجسديّة، والمتن السردي يحتشد بدراما (الصراع ) حيث مغالبة الدعوة السافرة إلى ارتكاب الخطيئة و الإفلات من قبضتها : “ صددتها أدرت لها ظهري ، لحقت بي ، مزقت قميصي ؛ لكني نجوت من الخطيئة “ أربع جمل جمالياتها تكمن في أن جملة البداية صادمة لافتة تفتتح صراعاً حادّاً تواكب فيه الحركة الخارجية مقاومة نفسيّة داخليّة غير منظورة ،و الثالثة تستدعي عبق النبوة وطهر الروح من خلال استلهام آي الذكر الحكيم حول مقاومة سيدنا يوسف لدعوة امرأة العزيز لارتكاب الفاحشة وصراعه الداخلي (وهمت به وهم بها)والجملة الأخيرة تنير الرؤيا حيث تنتصر الفضيلة على الرذيلة. وإذا كانت هذه القصّة تصوّر المبادرة وقد أصبحت بيد الأنثى ما يجعلها فتنةً مصداقاً للحديث الشريف” ما رأيت فتنة أشد على الرجال من النساء” فإن النص الثاني من هذه الستارة الموسوم ب(مغادرة ذبول) تطوير للموقف الأنثويّ من خلال الأليجوريا (الأمثولة الرمزية) حيث الوردة و ذبولها التي استبدلت بذلك الحيوية و الانتعاش ومغادرة الذبول متخلّية عن الرضوخ للرغبة و الشهوة (اعتلال الروح و ضعف الإرادة) فالوردة ترمز في تحولاتها إلى الذات الأنثوية،يكمل هذا السياق النص الثالث من هذه الستارة ( معاودة الكرّة و مقاومة الرغبة، وسقوط الذات المرذولة غير مأسوف عليها ؛ فهي لم تقوُ على مطاردة ضحيتها الذي صعد إلى أعلى الشجرة بينما انحدرت إلى أسفلها . أما نصوص الستارة الثالثة فهي تقدّم وجهاً آخر للسقوط في ثلاثيتها حيث التسلّق و الغدر (اتق شرّ من أحسنت إليه) فالذي عيّنه مديراً لمكتبه احتلّ مكانه، وهذا النص يقوم على المفارقة ويختزن كمّاً من التفاصيل مسكوتاً عنها ؛ ولكنها مضمرة والإيماءة إليها لاتحتاج إلى كثير من الجهد و عميق الاستبصار، وذلك في النص الأول (حال بحال) وفي النص الثاني (سنارة لم تصب) يصور الكاتب محاولة الرجل الاستحواذ على الأنثى وصراع الرّغبات بينهما وكيف استطاعت أن تزيح الستار عنه ، و تميط الحجاب عن سوءاته ؛ وبهذا النص الذي يعتمد على الإشارات الضمنيّة و سيمياء المتن وإضمار التفاصيل ، و صراع الرغبات يراكم الرذائل النفسية التي تتمثل في التسلّق و الطمع و الأنانيّة ؛ أما النص الثالث (تفتت) فيكمل الحلقة بإدانة تلك الرذائل ونتائجها وهي السقوط ، حيث يخسر الرجل أعزَّ ما في وجوده (نبض الأم) حين يخضع للشهوة ويستكين للإغراء و الشهوات ، تلك لحظة التنوير لهذه الستارة ، وقد جاءت في ثلاث جمل قصيرة حيث الفعل :ابتسامة الأنثى ورد الفعل : الاستجابة لها بإهداء القلب ، و النتيجة خسارة محبة الأم . في الستارة الرابعة يزداد الأمر خفاءً و يخيّم الغموض ؛ ولكن السلسلة لا تنقطع ، فالجوهر الأخلاقي للتنوير يتلامح بين السطور و العلاقة الذكورية الأنثوية تتمتّع بالحضور ، يبدأ بالأولى ( بوق وفلسفة أزيز) مفتاحها التفاحة و (الأزيز) و السؤال إلامَ تحيلنا التفاحة ؟ إن مرجعيتها تلك الشجرة المحرمة في مصادرها الدينيّة ؛ و أما الأزيز و البوق) فهي للتنبيه و التحذير؛ فنحن أمام تشكيلة رمزيّة : المتعة و ما يعيقها ،فهو ينبّه لعواقبها : ثلاث جمل تتوزع على مثلث أرسطو : البداية (أكل التفاحة ) ثم العجز عن التمتع بها كلها والنهاية (الأزيز) الذي يحسم الموقف وينهي الأمر ، جماليات الترميز وتشكيل الأمثولة؛ وأما الثانية فعنوانها ( اثنتان تسبحان ) السباحة في الماء عارياً وجفاف الماء وتكاثر الأفاعي و سخرية النساء وطلب الطلاق : كثافة سرديّة تزدحم بالأحداث و الشخصيات : المتعة التي تعقبُها النقمة (السباحة – جفاف الماء و كثرة الأفاعي و السخرية و الطلاق – اثنتان الباقيتان السابحتان ) المثلث الأرسطي ذاته الخطيئة و العاقبة -الاثنتان فمن هما ؟) التلغيز ليس مبهما؛ بل فضاء رحب للتأويل . أما النص الثالث فيمضي على المنهج ذاته من التمثيل و الترميز: (ممارسة السباحة شبه عاري (عارٍ) عرفن صديقاتها (عرفت صديقاتها) تكاثرن عليه فرفضهن إلا اثنتين) أما النص الثالث (افتراق) فيمثّل لحظة التنوير ؛ الطريق المسدود والنهاية البائسة و التلازم بين مرتكبي الخطيئة وسوء الخاتمة . أما الستارة الخامسة فتتدفق من ذات الينبوع: الخطيئة و الفضيلة و الجريمة و العقاب وتحويل المجرّدات إلى محسوسات حيث جماليات التقاطع بين السرد و الوصف ، القرية المبللة و المرأة المدللة و المتعة المختَطَفة و الطبيعة أو البكارة المنتهكة : ثنائية الذكر و الأنثى العاشق و المعشوقة والصدمة الفارقة و الكارثة الكبرى ؛ فجدران القرية التي تمثل البراءة و النضارة تلطّخها دماء الجريمة و القميص المبلّل والتداعيات المستحضرة (القميص) قميص عثمان وقميص يوسف و اللصوص (الذئاب) قطّاع الطريق ، والخطايا و البلايا والفلسفة المُضمَرة والدلالة الظاهرة والانزياح عن المألوف . وفي قصة (اختباء) تنتظم الحلقة الثانية من الثلاثية المعهودة و تتمثل : الزيارة فالارتباك والاضطراب ومظاهره الجسدية (لغة الجسد) الاصفرار و الاسوداد ثم السقوط ، محاولة الاختفاء و التنصّل من فضيحة ما ، ثم انكشاف الأمر ؛ وقد يبدو هذا النص خارج إطار النص السّابق التي أشرت إليه ،ولكن المتأمل فيما وراء التصوير المشهدي والمتابع لقراءة النص الثالث ربما يعثر على الخيط الذي ينتظم هذه النصوص الثلاثة؛ فالنص الثالث يتّسق مع الثاني في فضائه التعليمي، فالوفد الذي يرأسه الأب (الذي أنجب الطالبة في ليلة حمراء) على حد تعبيرها يخفي خطيئةً تنتظم في سياق الثنائية الجندريّة (الجندر : النوع الذكر و الأنثى) إذا صح التعبير (العلاقة بين الرجل و المر أة) مؤطرة بالخطيئة المًكتشفة التي لم يغطِّها الستار وهي المعنونة (بعيدا عن الظن). في الستارة السادسة ينتظم العقد وتزداد الرؤيا وضوحاً مفاتيح نصوصها الثلاثة النخيل و الحمام ؛ في الأولى (نخلات و نخلة) ثمرة الخطيئة نخلات عجاف لا تثمر من أصل نخلة ضالة (كناية عن الأنثى مرتكبة الخطيئة) و في الثانية (تقافز روح) اختفاء الحمام الأبيض (اختفاء النقاء و إظلام للروح) والاحتفال بالموت .وفي الثالثة مقايضة لإصلاح الطريق بصندوق الرطب ،في قصته الثالثة (شراء) تجاوز للترميز بالتأويل بعيد المدى وماوراء الدلالة في سياقها السردي أما الستارة السابعة فهي إطار جامع تتصاعد فيه الرغبات ويتطوّر فيه الطموح ويتغوّل فيه الطمع ؛ هذا ما أظنه تأويلاً للأولى (الأسود يليق) فمن مهمة رفع السارية وتغييّر المظهر وما يشي به اللون الأسود من دلالات مفارقة إلى تجديد الكرسي وما يوميء إليه من صعود طامع وقفز مبيّت حيث الموقع المرغوب المأمول ، وفي النص الثاني (أرجيلة ) امتداد للرغائب وتنامٍ في الطموح وانصراف إلى المتعة ؛ فالإرجيلة المفتاح و المحور، والنظارة اكتمال الهيئة و المنظر، و الغزلان الصبوة و الجمال ، والقصة الثالثة مفتاحها الأتان و الفرس فقد كان يركض خلف الأتان فإذا به يفوز بالفرس ؛ فالمفارقة تكمن في الركض خلف القليل دون أن يحظى به ، وحين مشى خلف الكثير فاز بالفرس معشوقةً ، وكلاهما علامة تشير إلى الدلالة الرئيسة في الستارة الثالثة من سلسلة قصصه القصيرة جداً في هذه المجموعة . ولعل قراءتي لهذه النماذج تميط اللثام عن فلسفة الكاتب في مجموعته هذه التي التزم فيها بجماليات هذا الفن والترابط العضوي الذي أبان عن فضاء الرؤيا لديه.