سنحت لي فرصة في شهر أكتوبر الماضي بمشاهدة بعض الأعمال السوريالية الشهيرة ومنها لوحة (إمبراطورية الضوء) للفنان البلجيكي رينيه ماغريت(1897-1967) في مزاد ودار كريستيز للفنون في لندن؛ وذلك احتفاءً بمرور مئة عام على بيان السوريالية الأول عام 1924 الذي نشره مؤسس السوريالية الشاعر الفرنسي آندريه بريتون وأكد فيه على أهمية العقل الباطن والأحلام والتحرر من القيود العقلانية، والرغبة في تجاوز المنطق والواقع عبر التعبير الفني الحر الذي يعكس تجربة الحياة الداخلية واستكشاف أعماق النفس البشرية. يقول الروائي البريطاني جوليان بارنز في روايته (القصة الوحيدة) التي صدرت عن دار جونثان كيب التابعة لمؤسسة بنغوين راندم هاوس عام 2018 وفي صفحتها الاولى: “ في حياة السواد الأعظم منّا قصة واحدة عليه أن يرويها، ولا أقصد بذلك أن حياتنا لا تحوي سوى حدث بعينه، بل ثمة عدد لا يُحصى من الأحداث نصنع منها عددا لا يحصى من القصص، بل أعني شيئا آخر؛ وهو أن هناك قصة واحدة فقط، وهذه قصتي”. إن الإبداع والخلق الفني يتمحور دائما حول الضرورة الشخصية لذات المبدع ونقصد هنا بالطبع الفنان الذي يستند على هواجسه وخوفه وحتى هلاوسه لكي يوجه إبداعه باتجاه معين. وبالعودة إلى رينيه ماغريت وإلى احدى لوحات سلسلة امبراطورية الضوء تحديدا، هل يمكننا القول إنها لوحة توجز كل قصته؟ بما أن الأشياء هي كلمات الرسام التي نتعلم من ترتيبها ومن رصد عناصرها وموجوداتها كتمرين لقراءة العمل الفني. رسم رينيه ماغريت هذه اللوحة بين عامي 1953 و1954. وهي تصور مشهدا غامضاً وغير منطقي، حيث يضيء مشهد شارع في الضواحي بواسطة عمود إنارة وحيد. تضيف الأضواء المنبعثة من الطابق العلوي لمنزل مواجه للشارع المزيد من الإضاءة. في المقدمة، يعكس مسطح مائي متموج هذه النقاط الضوئية، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها ماغريت مسطحاً مائيًا في المشهد. شجرة شاهقة تمتد نحو السماء الزرقاء المزركشة بالغيوم، وشكلها الداكن يخترق ضوء النهار. التناقض بين الضوء والظلام هو العنصر الأساسي في هذه اللوحة ويثير شعوراً بالدهشة والغرابة لدى المشاهد. لكن ما الذي ترويه هذه اللوحة، أو بالأحرى ما الذي تخفيه هذه اللوحة؟ لأن رينيه ماغريت كان دائم الرفض لكل تفسير لفنه. وبالعودة إلى طفولته التي لم يذكرها ماغريت نفسه إلا نادرا؛ ولد رينيه فرانسوا ماغريت في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر عام 1898 في بلدة لسين في بلجيكا، كان الابن الأكبر لخياط وتاجر أقشمة اسمه ليوبولد ماغريت وصانعة قبعات اسمها ريجينا. إنتحرت ريجينا عام 1912 وذلك برمي نفسها في نهر سامبر القريب من منزل العائلة ولم يتم العثور على جثتها الا بعد أكثر من أسبوعين من غرقها، حيث كان ثوب نومها يغطي وجهها، وسيكون ابنها البكر رينيه الذي كان على مشارف عامه الرابع عشر شاهدا على تلك الفاجعة، لاحقا ستلازم رينيه ثيمة الوجوه المغطاة في بعض لوحاته مثل (العاشقان/ 1928). لكن انتحار الأم لم يكن مفاجئا فقد عانتْ من نوبات اكتئاب واضطراب عقلي مما اضطر الزوج ليوبولد إلى حبسها في الغرفة العلوية مع ابنها الصغير بول الذي سيكون الشقيق المفضل لدى رينيه والذي سيشاركه بعض مشاريع الفنية لاحقا. فنان البلاغة الصورية كان ماغريت يكره الرموز وقد قال ذلك بوضوح: “ما أرسمه لا ينطوي على أي شيء رمزي لذلك لا يوجد ما يمكن تفسيره. فأنا لا تشغلني الرموز بل الشيء الذي يُصنع منه الرمز”. ويقول أيضا: “لا يوجد مضمر في لوحاتي، رغم الإرباك الذي يمنح معنى رمزيا للوحاتي، فكيف يمكن الاستمتاع بتفسير الرموز؟” إذن؛ تلك الغرفة العلوية المضاءة بضوء شحيح أصفر في لوحة (إمبراطورية الضوء) هي غرفة ريجينا، والبحيرة الساكنة ماهي الا المياه التي ابتلعتْ ذلك الضوء الشحيح في حياته وهي الأم. في نوفمبر من عام 1938، حينما كان ماغريت على مشارف الأربعين من عمره، ألقى محاضرة في مدرسة الموسيقى في آنتورب في بلجيكا وكانت بعنوان (مسيرة حياة) وتحدث عن حياته وفنه لغاية تلك اللحظة. استرجع طفولته حيث قال إنه اعتاد اللعب في مقبرة محلية تعرف بمقبرة سينيه في بلدة شاتليه، بالقرب من مدينة شارلروا في بلجيكا، وبرفقة صديقته اميلي كروكز التي كانت تكبره بسنتين والتي عمل والدها حارسا للمقبرة، كانا ينزلان إلى أقبية المدافن ويخرجان من طرفها الآخر حيث سيأسره منظر رسام يرسم لوحة لمنظر طبيعي مع رواق المقبرة. كان ذلك الرسام هو ليون هيجينز (1876/1919). وبحسب أحد أصدقائه من تلك الفترة فقد كان ماغريت يستمتع بتخويف أصدقائه والاختباء بين القبور. لعب ماغريت في المقبرة وارتبط أيضًا بتجربته الصادمة بفقدان والدته، حيث أصبحت فكرة الموت بالنسبة له موضوعًا حاضرًا يحمل بعدًا مزدوجًا بين الخوف والفضول. لاحقًا، انعكست هذه التجربة في فنه، حيث اعتمد عناصر مشبعة بالغموض واستكشاف المسائل الوجودية، مثل الحياة والموت والزمن، بطريقة فريدة تتلاعب بإدراك المشاهد وتثير فيه الإحساس بالغرابة والألفة المزعجة وعدم الارتياح، ولعل أبرز مثال على ذلك حينما استبدل التوابيت مكان الأحياء في لوحة الشرفة لإدوارد مانيه واستبدل تابوتا مكان السيدة المستلقية على الأريكة في لوحة مدام ري كاميه للفنان الفرنسي جان لوي دافيد . وبالعودة إلى (إمبراطورية الضوء) هي لوحة يخيّم عليها سكون كئيب كمثل ذلك السكون الذي يأتي بعد زوبعة أو حدث كبير. رسم ماغريت عدة نسخ من إمبراطورية الضوء بألوان وتفاصيل متباينة، لكنها تشترك جميعاً في هذا التناقض البصري بين الليل والنهار وجمعهما في مشهد واحد. التناقض في اللوحة أداة سريعة تجعلنا ننزلق بشكل منطقي من أحد وجهي التناقض إلى الآخر في لحظة إدراك هويتهما واختلافهما البيّن: إنهما النقيض لكنهما يتشابهان ويتجاوران. وتهدف اللوحة إلى زعزعة إدراك المشاهد للواقع وتقديم رؤية جديدة لعالم متناقض وغير مألوف لكنه شاعري، وهو ما يتماشى مع أسلوب السريالية الذي يهدف إلى تخطي الحدود التقليدية للفن وتمثيل العالم الداخلي والعقل الباطن بل وحتى الهلاوس. ومن ينظر للوحة نظرة سريعة لا يستشعر هذا التباين للوهلة الأولى لكن ما أن يركز في انعكاس ضوء الشارع في البحيرة، وبالطبع فالإنعكاس لا يحدث في النهار؛ فهنا سيتحول المشهد العادي إلى مشهد ملغز وهنا يكمن سر لوحة (امبراطورية الضوء). هذا النمط من المشاهد الليلية التي تحدث في وضح النهار هو ما استكشفه رينيه ماغريت عبر سبع عشرة لوحة فريدة طوال حياته وهي تجسيد للرؤية والتجريب السوريالي الخيالي الفريد للفنان. يؤكد ماغريت: “لوحاتي صور، والوصف الصالح لصورة لا يمكن تحقيقه دون توجيه الفكر نحو حريته” والحرية كما يُعرّفها: “هي إمكانية الوجود لا الإجبار على الوجود”. ويقول ماغريت ايضا: “إننا لا نستطيع أن نشرح شيئا بشكل صحيح إلا في اليوم الذي نفسر فيه التفسير”. يُعتبر رينيه ماغريت من أبرز رواد الحركة السريالية بفضل أسلوبه الفريد الذي يمزج بين الواقعية الدقيقة والرمزية الغامضة. قدم ماغريت رؤى مبتكرة ومثيرة للتفكير، حيث رسم صورا من الحياة اليومية وأعاد تقديمها بطرق غير متوقعة، مما خلق تباينات غريبة سلطت الانتباه على التوتر بين الواقع والمخيلة. تميزتْ أعماله بإثارة الأسئلة حول الإدراك، والهوية، والمعنى، وغالبًا بأسلوب ساخر لعب على دلالات الأشياء، مثل لوحته الشهيرة (خيانة الصور/ 1929) التي رسم فيها غليونا وكتب فيها: “هذا ليس غليونا”. ثنائية دقيقة بين الليل والنهار يقول رينيه ماغريت:”لا يمكن اختراق الواقع لأنه دائما يتملص منا بالاختفاء” وبالنسبة لماغريت تخيّل الواقع هو سلسلة لا تنتهي من المشاهد وهذا التخيّل كان وسيلة للحفاظ على براءة اللغز. ويقول أيضا: “بالنسبة لي، الأمر ليس مسألة رسم الواقع كما لو كان متاحًا لي وللآخرين بسهولة، بل هو تصوير الواقع الأكثر عادية بطريقة تجعل هذا الواقع المباشر يفقد طابعه المعتاد ويقدم نفسه بالغموض”. في ثنائية الليل والنهار الدقيقة في هذه اللوحة، يلتقط ماغريت جوهر فلسفته الفنية في صورة واحدة، وهي فكرة عاد إليها مرارًا وتكرارًا. وصف الفنان اهتمامه الشخصي العميق بالليل والنهار بأنه “شعور بالإعجاب والدهشة” (لنتذكر لعبه في أقبية المدافن/الظلام، وخروجه منها نحو الضوء/ رؤية الرسام أمام الحامل). كانت هذه الفكرة قد ألهمت ماغريت لاستكشافها بعد قراءة قصيدة للشاعر أندريه بريتون، مؤسس الحركة السريالية، التي يُحتفل “بيانها السريالي” بالذكرى المئوية هذا العام. وقد يكون ماغريت قد استلهم أسلوب الفنان الإنكليزي جون أتكنسون غرامشو(1836-1893). كل لوحة في سلسلة “إمبراطورية الضوء” تختلف بشكل طفيف عن الأخرى، وتبرز قدرة ماغريت الفائقة على تحويل رموز الحياة العادية والمألوفة إلى عوامل مفاجأة ودهشة. ورغم بساطة العناصر المكونة لهذه اللوحة (بيت ونوافد وشارع ومصباح إنارة وسماء وغيوم) الا أن عجائبيتها تنبع من غرابة تداخل تلك العناصر مع بعضها. صرحتْ إيموجين كير نائبة رئيس دار كريستيز. “ إنها تجربة مشاهدة استثنائية، فاللوحة تهيمن على المشاهد تمامًا، وحجمها يجذب الانتباه، وهناك حركة تناقل تنشأ من ديناميكية تداخل الليل والنهار معًا. يسبر ماغريت هذه المستحيلات التي لا تتحقق إلا في المخيلة، ويطرح تساؤلات حول هيمنة إدراكنا لما نطلق عليه الواقع”. تحفة فنية عُرضتْ وسط ضجة كبيرة أبدع ماغريت لوحة (إمبراطورية الضوء) في ظروف استثنائية إلى حد كبير، نظرا للاهتمام المتزايد بأعماله حينها. ففي 19 يونيو 1954، افتتح بينالي البندقية للجمهور. وبمناسبة الذكرى الثلاثين للبيان للسوريالي في ذلك الوقت، نُظم الحدث تحت شعار “الذوق السوريالي”. وفي الجناح البلجيكي للبينالي، استُكشِفَ عالم الفانتازيا في الفن الفلمنكي من القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، وكان المعرض الإستعادي لأعمال ماغريت هو المحور الرئيسي. ضم المعرض 24 لوحة رسمها من عام 1926 إلى أحدث أعماله في ذلك الوقت، وكان فرصة لماغريت لعرض أهم أعماله في مكان واحد وتسليط الضوء على القضايا الأساسية في مسيرته الفنية. كانت (إمبراطورية الضوء) إحدى اللوحات المميزة في معرض ماغريت التي جذبت اهتمامًا كبيرًا. ومع ازدياد الاهتمام، واجه ماغريت مشكلة؛ حيث وعد ببيع اللوحة لثلاثة مشترين مختلفين. في النهاية، حصل مقتن آخر تمامًا على اللوحة: فقد اشترتها بيغي غوغنهايم مباشرة من البينالي مقابل 1,000,000 ليرة ايطالية. ونتيجة لذلك، رتب ماغريت لرسم ثلاث نسخ إضافية من (إمبراطورية الضوء) لإرضاء الأطراف الأخرى المحبطة. تم رسم هذه اللوحة للمقتني البلجيكي ويلي فان هوف. نُفذتْ اللوحة بمقياس أكبر قليلاً من النسخة الأصلية، مما عزز الأجواء الغريبة للمشهد الأيقوني وعزز الطابع الشعري البصري للوحة. أثبت بينالي 1954، الذي اجتذب أكثر من 170,000 زائر، مكانة السريالية في قائمة فنون القرن العشرين، مما دفع ماغريت للعودة إلى تنقيح وتطوير موضوعه الشهير (إمبراطورية الضوء). كل لوحة في هذه السلسلة، التي أبدعها ماغريت على امتداد 15 عامًا، متميزة، بعضها كبير وبعضها صغير. بعضها عمودي والبعض الآخر أفقي. في بعض النسخ يكون المنزل في الخلفية وفي البعض الآخر يحتل المقدمة بالكامل. وفي هذه النسخة تحديدا يحقق ماغريت كل ما يجعل هذه اللوحة مدهشة: تمركز أماكن الإضاءة، حركة المياه، والإنعكاس، والتباين الحاد بين الليل والنهار. سيتم عرض لوحة (إمبراطورية الضوء) في 19 نوفمبر الجاري في دار كريستيز في نيويورك كجزء من مجموعة “مجموعة ميكا إرتغون”. * لندن