الجلسات الشللية.. العالم الموازي.

الجلسات الخاصة ظاهرة اجتماعية، طورتها المجتمعات العربية، لتلبية أغراض شتى، ولمرامٍ عديدة، ليس هنا مكان تعداد أشكالها، ولا استعراض مراحل تطورها. وقد توقفت كثيرًا قبل اختيار مصطلح مناسب للجلسات النوعية التي يجمع بين أفرادها قواسم عمرية متقاربة، وأحوال اجتماعية مشتركة، والتي هي مدار حديثي هنا، مصطلحُ ينسجم مع ديناميكياتها الخاصة، ويعبر عنها بتصويبة قريبة من الهدف، هل ينطبق عليها اسم “المجالس المجتمعية”؟ التي ينسدل تحتها أنماطٌ عديدة من المجالس وعلى مستويات مختلفة، أم الأنسب اسم “الجلسات الشعبوية”؟ وهذا النوع من الجلسات له فضاؤه الواسع وسيكولوجيته المُمَيِّزَة، وقد توسع في الحديث عنها وأجاد الطبيب النفسي والمؤرخ الفرنسي “جوستاف لوبون 1841م - 1931م” في كتابه الفريد “ سيكولوجية الجماهير” وحيث أن هذه “الجلسات” مقترنة باجتماع مجموعة معينة يطلق عليها - عُرْفًا “شلة” وذلك وفقًا لما ورد في “معجم المعاني” فقد استرحت كثيرًا إلى دقة مصطلح “الجلسات الشللية” فبالكاد تجد أحدًا منا غير مرتبط بجلسة مسائية، إنِ أسبوعية أو حتى يومية، بل أعرف رجلًا تعلق بـهذه الجلسات تعلقًا لا إراديًا، لدرجة أنه يعتمر اثني عشر مجلسَا في الأسبوع الواحد. كثرت “الجلسات الشللية” وتطورت، حتى أضحى بعضها يقام في استراحات، فيها كامل مستلزمات الضيافة ومقوماتها الغذائية والترفيهية، وأحيانًا في ردهات الفنادق، وفي غالب الأحيان يتم احياء الجلسة في بيت أحدهم ممن منحه الله انشراحًا في الصدر، وأعطاه بسطةً في الرزق. وأمسى الغالب مدمنًا لتلك المجالس بدرجة قهرية لا يقوى على الفكاك منها. فلا يكاد يخرج من عمله ويصل إلى منزله في آخر النهار، ويمكث لمدة ساعتين على الأكثر مع زوجه وأبنائه، إلا وينطلق بكل صبابةٍ وشغف، نحو “الشِلّة” الجاذبة، قبل أن يبرد محرك سيارته. وحيث أن عدد السعوديين من الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم بين (20 – 70) عامًا، وهم المهيؤون لارتياد الجلسات الشللية، ينيف على (16) مليون نسمة، ولو افترضنا – افتراضًا – أن نسبة (30%) منهم - فقط - بما يساوي (4,8) مليون فرد، مرتبطون بجلسات دورية، فإن عددها يبلغ (685) ألف جلسة، وعليه فإن عددها يفوق عديد المساجد بما فيها مساجد الجمعة مع النوادي الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، ولو قدرنا التكلفة السنوية التي يتحملها الفرد الواحد، إن كان دفعًا مباشرًا، أو ما يتحمله المُضيف عن كلٍ واحدٍ من جلسائه بـ (4000) ريال في السنة، فإن التكلفة الإجمالية لهذه الجلسات على المستوى الوطني تبلغ - تقديرًا- حوالي (20) مليار ريال سنويًا. أمام هذا المبلغ الكبير - غير المتفق على دقته - أتساءل ما هو المُخْرَج الاجتماعي والثقافي وحتى الناتج الاقتصادي لهذا النمط من الجلسات؟ في هذا المقال لا ولن أتحدث عن الجلسات التي تنعقد في الصالونات الأدبية الأهلية، والتي لا يتجاوز عددها (200) صالون في عموم مناطق المملكة. كما أنني لن أشرق ولن أغرب، وسأحرص كثيرًا على تحاشي الأحكام القطعية. لكل هذا وذاك فإنني أتوقع أن إيجابيات “الجلسات الشللية” أكثر من سلبيانها على افتراض وجود السلبيات. بالرغم أن مسار الحديث الذي يدور في أغلب “الجلسات الشللية” غير منضبط بقواعد الحوار ولا بحدودها الدنيا، إلا أن سيدة الموقف في الجلسات الشللية هي “لعبة كرة القدم” بلا منازع، وذلك من الدرجة الأولى حتى الدرجة العاشرة، خاصة في المواسم الدورية للمباريات، ثم يليها الفن الغنائي، والقصيد الشعري. أما إذا كانت هناك أوبئة صحية فستجد أغلبية أعضاء الجلسات أطباء بشريين بلا شهادة، وممارسين صحيين بلا تدريب. وإذا ثارت قضية سياسية، أو انفجر نزاع مسلح ولو في أقاصي “أمريكا اللاتينية” فستجد الذي كان قبل الأمس معلقًا رياضيًا مفوهًا، وفي الأمس كان طبيبًا نطاسيًا حاذقا، يتحول اليوم إلى محلل سياسي، بخلفية دينية ومرجعية تاريخية ليس لها أدنى علاقة بالحدث. كما أن سياق الأحاديث في “الجلسات الشللية” يعتمد على طبيعة مواضيعها، فإذا كانت ذات خلفية دينية، فلن تسمع إلا رنين الشعارات، حيث ينقلب الحضور إلى خطباء لا تنقصهم إلا الميكروفونات. أما إذا كانت ذات صبغة ثقافية فلن ترى إلا قعقعة المزايدات، وكأن الحضور في مسرح روماني. ويؤخذ على هذه الجلسات تأثرها كثيرًا بما يُكْتَب في وسائل التواصل الاجتماعي، واستجرارها – على نحوٍ طاغٍ - ما يتحدث به المشاهير “اليوتيوبرز” والنجوم “الواتسيون” من فذلكات ثقافية، و توهمات عقائدية، مضغها الزمان ولفظها، وذاقتها الأيام ومجتها. وأحجمت دور النشر عن طباعتها، أو ما تبثه “السنابيات” من هياط مقزز، وفشخرات هابطة لا يستسيغها إلا من كان ذا ذوق عقيم. هذا وإن الإدمان على “الجلسات الشللية” بصورة مفرطة يمكن أن يترك آثارًا سلبية شتى على الأفراد منها القلق والاكتئاب لكون المدمن تدرب على انتشاء السعادة من الأجواء الشللية الصاخبة التي خيمت في مكان الصدارة، متقدمة على الأجواء المنزلية الدافئة. مع كل هذا وذاك لا يعني ذلك إنكار وجود جلسات وقورة يتدفق فيها الحوار بأسلوب راقٍ وفق منهجٍ عميق، ينم عن إدراكٍ عالٍ بما يجري على جميع الساحات القريبة والبعيدة، ومن المؤكد أن كل جلسة شللية لا تُعْدَم مثقفًا لوذعيًّا، ولا تخلو من مستنيرةٍ واعٍية، لكن مع قليل من الحسرة، ممزوجة بكثير من المرارة، أشعر أن تأثير هؤلاء يبقى محدودًا إن لم يكن معدومًا أمام أصوات الأغلبية الطاغية من المثقفين الرعاعيين وأشباههم ذوي التفكير التقليدي الضيق، وأصحاب الطرح الماضوي العقيم الذين لم يقرؤا في حياتهم كتابًا واحدًا. ولكن لو راقبنا هذه الجلسات من مسافة كافية تتيح لنا النظر إلى جميع الأبعاد والزوايا والألوان، فسنجدها فعاليات ترفيهية من الدرجة الأولى، تلبي الاحتياجات النفسية لمرتاديها، لغرض الفسحة والتحرر من الضغوط الحياتية ولو مؤقتًا. وبالتالي تعتبر متنفسات مشروعة في أجواء مفتوحة، يتم إحياؤها بمحتوىً محلي عالٍ يفوق نسبة كبيرة من الفعاليات الترفيهية المنافسة. ومع كل ذلك تبقى الجلسات الشللية - على افتراض برائتها من أي ملوثٍ حضاري أو منغصٍ وطني – قنوات حية للتواصل الاجتماعي، في زمن هيمنت عليه ممارسات تسليع الأشياء في جميع مناح الحياة، وأصبحت الخرافة سلعةً تباع وتشترى في أسواق التفاهة. ولأجل استثمار “الجلسات الشللية” استثمارًا اعلاميًا ووطنيًا مفيدًا، وحمايتها من الثقافات المشبوهة، وحراستها من المؤثرات الخاوية، فإنني أتمنى إجراء دراسة علمية متعمقة، لهذا القطاع الحيوي الهام ، وبحثه من كافة جوانبه الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية، لعل الدراسة تخرج بنتائج مثمرة، وتوصيات مناسبة، بهدف إحاطة هذه الجلسات بالرعاية والاهتمام المناسبين، وتعظيم الفائدة منها بما يوازي النفقات المالية التي تلامس سقف الـ (20 ) مليار ريال، والساعات الزمنية التي تُقضي في هذه الجلسات والتي أقدرها بـ (2) مليون ساعة يوميًا.