الزمّاي ينبش ذاكرة جيل التسعينات في « جيم»!
لو كانت الأعمال الأدبية تكتب على مقامات الموسيقى فإن رواية «ج» ستكون –لا محالة– على مقام الصِبا، الرواية التي كُتبت بذاكرتين مختلفين للحدث ،أو الرواية «الجاهزة» كما يصفها السارد ،في بداية الرواية لافتات مُقتبسة تتقدمها مقولة الكولمبي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز: (الحياة ليس ما نعيشه ، وإنما ما نتذكره ،وكيف نتذكره لنرويه) , ويختمها بلافتة للشاعر أمل دنقل: ( هي أشياء لا تشترى ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك, حسكما فجأة بالرجولة هذا الحياء الذي يكبت الشوق حين تعانقه، الصمت – مبتسمين- لتأنيب أمكما) إن كان عنوان النص في العمل الأدبي هو العتبة الأولى لقراءة النص، فإن مثل هذه اللافتات هي بمثابة مقبض الباب الذي تديره للدخول في عوالم النص وأحراش السرد وادغاله ،بعد الخطوة الأولى يخط «المؤلف» عبارته الأخيرة: (كعصفور يبني بيته من أعواد القش دون أن يدري أن كل هذه (الذكريات) ستصبح في يوم ما محرقته..!), وكأن هذه الجملة هي التلويحة الأخيرة والفاصلة بين حدود المؤلف والسارد، لتدخل بعدها إلى لغة السارد الأنيقة بدرجة لافتة ،والرشيقة بخفّة فراشة، لغة موغلة في الرقّة لدرجة أنه يخيّل لك إن هذه الرقّة المتناهية هي التي تأخذ الماء بيديه لتوصله من النبع للنهر ! وإن كان ثمّة اعتراف لا بد منه ، فإنني أعترف أنني لم أكن قارئاً محايداً ،كنت أعتقد قبل الدخول في العمل بأنني قادراً على امتطاء جواد الحياد ، وإن كنت لا أظن أن الحياد يحتاج جواداً ولا جودا ،لكنني وجدت نفسي مأسوراً على سارية ذكريات جيل التسعينات بتلك التفاصيل والمسميات، أنا الذي أعرف تفاصيل «ج» حتى التي لم يذكرها السارد ،شممت رائحة الغبار في «الجادّة» التي رسمتها أقدام من يعبرون من «الحارة» إلى «البقالة» الوحيدة، وهم يسيرون بجانب سور المقبرة, عندما أمر الآن بجانب مقبرة تغشاني سكينة، احتراما لأرواح الآباء ربما، وبما احتراماً لهيبة الموت، وأُقارن ذلك في ذاكرتي بشعورنا نحن أبناء (جيم)، لم نكن بذات السكينة والتؤدة عندما نمر بجانب مقبرتها الوحيدة، في (جيم) يعامل أهل المقبرة كأنهم أحياء (جيران ربما)!، أها! أنا فعلاً الآن أتحدث وكأنني أحد شخصيات الرواية، وهذا بالطبع ليس صحيحاً ،أنا لست أحدهم ،الحقيقة أنا «ذاكرتهم» أو «هم من ذاكرتي»، أم إن السارد هو نبش ذاكرتنا ،أو أفشى حكاياتنا وأسرارنا الصغيرة التي كنا نعتقد إن فضحها سيغير وجه العالم ! ربما أمر آخر هو من جعل هذه الرواية تملأنا – فضلاً عن النستالوجيا- بكل هذا الشغب هو أن الدكتور عبدالله الزمّاي الشاعر والقاص والباحث حضر في كل هذه الاتجاهات في هذه الرواية، فإن كان ثمة ذاكرتين تناوبتا على السرد، فإن اللغة الشعرية كانت تقف إلى جانب السرد، دون أن تتخلى عن ومضات القصة الفاتنة، ولهذا أجزم أن هذا العمل الروائي سيلفت أنظار الكثير من النقّاد بتقنيته السردية اللافتة.