حكايات، ذكريات، وتساؤلات بريئة.

1 صديقنا القاص المبدع عبدالله بامحرز - رحمه الله - كان ساردًا متألقًا، وكان يتصف بصفةٍ نادرة قَلَّ أن تجدها في سواه: إنه يحفظ نصوصه القصصية عن ظهر قلب.. حين يطلب منه الأصدقاء قراءة قصة من قصصه (حقول الإسمنت / حقول المحار.. مثلًا)، يجلسُ جلسةً عجيبةً تشبه جلسة المهاتما غاندي، ثم يغمضُ عينيه وينطلق في القراءة مستلًّا نصوصه مباشرةً من الذاكرة، يقرأ وكأنه في صلاة، يقرأ وكأنه يحلّقُ في أفقٍ بعيد، يقرأ وكأنه غيمةٌ تذوب.. لقد شهدتُ هذا بعينيَّ ذاتَ سهرةٍ جمعتني به في بيت الصديق القاص صالح الأشقر - رحمه الله - في ليلةٍ شتائيةٍ باردةٍ في العاصمة الرياض. 2 في ليلةٍ من أجمل ليالي “ جدّة “ سمعتُ الساردَ الكبير الطيب صالح يترنّمُ بأبياتٍ للمتنبي في ندوةٍ له بنادي جدة الأدبي يسردُ فيها ملمحًا من سيرته المليئة.. شعرتُ حينها كأنني أسمع تلك الأبيات للمرة الأولى.. كذلك كان يتلو بين الفينةِ والأخرى - وفق ما يقتضيه السياق - آياتٍ بيّناتٍ من القرآن الكريم ظننتُ إذّاك أنني أسمعها للوهلة الأولى. في هذه الأمسيةِ ذاتِها، سأل أحدُ الأصدقاءِ الروائيَّ العظيم الطيب صالح هذا السؤال: “ لماذا منذُ زمنٍ بعيدٍ لم تصدرْ روايةً جديدة؟ “...رَدَّ الطيب بصدقٍ وتواضعٍ وهدوء: “ لم يعدْ لديَّ ما أقول “. في هذه الأمسية أيضًا هاجمَ أكاديميٌّ متغطرسٌ بشكلٍ لا يُطاق الساردَ المبدعَ والإنسانَ الجميلَ الطيّب صالح وتواقَحَ عليه، بل تحدَّثَ إليه بلغةٍ أقل وصفٍ لها إنها “ سوقية “.. فما كان من الطيّب المهذّب إلا أنْ ابتسمَ ابتسامةً صغيرةً ذات مغزى عميق، واكتفى بذلك، فما كان من الجمهور المحترم الذي غَصَّتْ به القاعةُ الكبيرةُ آنذاك إلا أنْ صفَّقَ طويلًا للطيب الذي أسَرَ بتواضعهِ الحقيقيِّ وبأخلاقِه العظيمةِ أولئكَ الذين حضروا جميعًا، وهم في الحقيقةِ كانوا يمثّلُون جميعَ ألوانِ الطيفِ الثقافيِّ في بلادنا. يا لعظمةِ المبدعين الكبار! 3 في إحدى الليالي و فيما كنتُ “ أدردش “ مع صديقي المبدع المميز هاني نديم، خُضْنا معًا في سيرةِ عمّنا الشاعر الكبير محمد الماغوط، وقمنا باستعادةِ ما تيسر من مقولاته الصريحة الجريئة، منها مثلًا قوله: إنه التحق بالحزب القومي السوري الاجتماعي ليس عن قناعةٍ منه بأفكاره أو عن إيمانٍ منه بأيديولوجيته؛ بل لأنَّ الدنيا كانت صقيعًا تلك الليلةَ ولأنّ مبنى “الحزب” كان ينعمُ بمدفأةٍ جيدة! كذلك استعدنا تلك الدعابة القصيرة اللطيفة التي سردها عن بدر شاكر السيّاب، والسيّاب بالمناسبة شاعري المفضّل، تلك الدعابة وَرَدَتْ في كتاب الماغوط الشهير الساحر “سأخون وطني”، مفادها: عندما كان السيّابُ يمشي مترنحًا، مرّتْ بجواره على مهلٍ”حافلةٌ “ تُقِلُّ عُمّالًا، وفيما كان يهمُّ بدخول الفندقِ الذي كان يقصده أخطأَ و رَكِبَ معهم ...وهو، أي السيّاب، وكما روى الماغوط ، دخل الحزب الشيوعي العراقي بهذه الطريقة. 4 منذ سنوات، حاز روائيٌّ “ يهوديٌّ “ على جائزة نوبل، الكاتب اسمه “إمره” وروايته بعنوان “لا مصير”، بعد ذلك بأيام قليلة هاجم كُتَّابٌ عربٌ ذائعو الصيت الروايةَ؛ بحجة إنها تكرس فكرة الهولوكوست ومظلومية اليهود...الخ.. طبعًا أنا - المتلقي الذي ثقافتي على قدّي - كنتُ مقتنعًا تمامًا بآرائهم ومصدّقهم على الإطلاق ، أليسوا كُتَّابًا ذائعي الصيت، مُكَرّسِين، ومِمّن ملأتْ شهرتُهم الآفاق؟.. حين عثرتُ على الرواية، أبقيتُها طويلًا على رَفِّ مكتبتي لأنني تشبعتُ بتلك الآراء المضادة لها وترددتُ كثيرًا في قراءتها.. بعد فترةٍ طويلةٍ قرأتها، قرأتها متأخرًا بعد كل تلك “الهيصة “.. وهنا تكمن النقطة المهمة: اكتشفتُ أنَّ الكاتبَ نفسَهُ - عبر نسيج روايته تلك والحوارات التي دارت فيها - يشكُّ في حدوثِ تلك المحرقةِ أصلًا!!. 5 شيخُ المترجمين العرب، المبدعُ السوري الكبير سامي الدروبي، ذاتَ ليلةٍ نهضَ من سريرِ المرض (وربما هو سريرُ الموت)، متعاليًا على متاعبِ الجسد وسطوةِ الآلام؛ ليجري تعديلًا لكلمة، نعم لكلمةٍ واحدةٍ فقط لم تَرُقْ له في سياقِ ترجمتِهِ لإحدى روايات دوستويفسكي.. هنا يكمنُ درسٌ عميقٌ في محبَّةِ الكتابة، الإتقان ، التفاني ، والإخلاص للعمل الإبداعيِّ حتى آخر نًفَس في هذه الحياة. 6 يلزمُ المشتغل بالكتابةِ أن يكونَ مخلصًا لنصه، وأن يكونَ مصابًا بمرضٍ جميلٍ اسمه “ الوسواس “ حيال ما يكتب.. أنْ يكتبَ بإتقانٍ، وأن يمحو كثيرًا - وإنْ لم يَبْقَ من النصِّ سوى مقطعٍ واحدٍ فقط - لهو ضربٌ من ضروبِ العافية. تولستوي أحد أهم الكُتّاب الروس، صاحب “ الحرب والسلام “، أنفقَ عشرَ سنواتٍ من حياته وهو يشتغلُ على قصةٍ قصيرةٍ واحدة، لقد كان يكتب ويشطب ويحذف حتى اطمأنَّ إلى نضج نصه. ترى من يفعل هذا في زمننا هذا، زمن السلق والحشو والخِفَّة؟ 7 في عالمنا العربي، يَجْهَدُ المبدعُ طويلًا كي يحظى بفرصةٍ لطباعةِ كتابه الغافي في دُرْجِ مكتبه منذ سنوات.. ليس ثمة من يلتفتُ إليه أو يكترثُ به.. لكنه إذا غابَ عن عالمنا تُقَام له ولائمُ من الكلامِ الجميل، وتُعَّدُ في شخصِّهِ ونصِّهِ - الذي لم يُقْرَأ - حفلاتُ المراثي الطويلة، وتُقالُ وتُكْتَبُ في سيرتِهِ معلقاتُ المديحِ الذي لا ينتهي.. هنا لا يسعني إلا أنْ أقول: صَدَقَ الشاعرُ العربي الكبير محمود درويش حين قال: “يحبّونني ميتًا”. 8 دار الفارابي كتبَتْ على غلاف “ بلدي “ لرسول حمزاتوف كلمة “رواية”، بينما هذا العمل العظيم ليس روايةً فقط، إنه أكثر من كونه روايةً.. هنا سيرة للإنسان والمكان، وهنا حضور للتاريخ والأسطورة والثقافة الشعبية، وهنا كذلك تجلياتٌ فارهةٌ للشعر والجمال الخالص وأساليب البوح المغاير والكتابة الطازجة الطالعة من القلب؛ لهذا كلِّهِ أرى أنَّ “ الفارابي “ ظلمَتِ الكتابَ ظلمًا فادحًا...في الوقتِ نفسِهِ نجد دار الساقي تضع على غلاف كتاب “ وجوه “ لمحمد شكري كلمة “ رواية “، وهو ليس كذلك البتة ..كتاب شكري سِيَرٌ “غَيريّةٌ” مقتصدةٌ، تحملُ عناوينَ مستقلَّةً، عن أناسٍ عاش على مقربةٍ منهم، بدءًا من مثقفٍ يتشاجرُ مع مثقفٍ آخر في بيتِ كاتبةٍ كانت معنيّةً باستضافةِ رفاقِ الحرفِ حيث السهرة والحوار والعشاء، مرورًا بشاعرٍ كبيرٍ حاولَ النيلَ من شرفِ محمد شكري نفسِهِ حين سأله بصلَفٍ مقيت: كيف لا يكونُ لكَ بيتٌ فارهٌ وحياةٌ مترفةٌ فيما “صديقك” هو جان جينيه ؟ وانتهاءً بساقيةٍ تستهلكُ فتنتَها في مشرب، أو بائعةِ هوًى ذبلتْ مباهجُها في سرير الليل. السؤال هو: لماذا أصرَّتْ مؤسستان شهيرتان وعريقتان وخبيرتان في عالم النشر، على مستوى عالمنا العربي، على وضعِ كلمة “ رواية “ على الغلافين؟ لماذا ارتكبتا هذا التدليسَ البيِّن؟ وهل فعلتا ذلك بدافعٍ تسويقيٍّ مفادُهُ أنّ الروايةَ تبيع فيما سواها دون ذلك؟ 9 لماذا لم يضعْ محمود درويش قصيدته الشهيرة “عابرون في كلامٍ عابر” في أيٍّ من دواوينه؟ ولماذا اكتفى بوضعها في كتابٍ جَمَعَ فيه عددًا من المقالات التي كان ينشرها في مجلة “اليوم السابع”؟ هذا الكتاب النثري - كما يعلمُ الكثيرون - صدر في المغرب عن دار توبقال تحت عنوان (عابرون في كلام عابر). الإجابةُ أتَتْ على لسان درويش نفسِهِ، هكذا: “ في هذا النصِّ انتصرَ الشعارُ على الشعر “. 10 لماذا قامَتْ قيامةُ الشارع العربي على الدكتور العنزي هذا الذي أنكرَ شاعريةَ شاعرٍ عربيٍّ واحدٍ فقط هو نزار قباني، بينما لم تقمْ على أدونيس الذي أعَدَّ محرقةً هائلةً ليس لشاعرٍ واحدٍ فقط، بل لقائمةٍ طويلةٍ من رموز الحداثة الشعرية العربية أذكر منهم: بدر شاكر السياب، محمود درويش، نزار قباني، محمد الماغوط؟ حدث ذلك في حوارٍ طويلٍ نُشِرَ على حلقاتٍ في صحيفة “ الحياة “، وفيه نالَ أدونيس بضراوةٍ من كل هؤلاء الكبار الراحلين الذين ليس بوسعهم الدفاع عن أنفسهم.. العجيب أنَّ هذا الشارعَ العربيَّ الطويلَ العريضَ - حينذاك - لم ينبسْ ببنتِ شَفَة! 11 “ قرأتُ في أحدِ كُتُبِكَ موقفًا مضادًّا لقصيدة النثر، هل تغيَّرَ هذا الموقف؟”.. هذا السؤالُ المضحكُ - الذي يدلُّ على ادّعاءِ القراءةِ وعلى جهلٍ فادحٍ أيضًا بالشعر الذي يتبنَّاه أدونيس نفسه - طرحَتْهُ أستاذةٌ جامعيّةٌ على صاحب “الثابت والمتحوّل” في ختام محاضرته التي بعنوان “ الشعر والحياة “ التي انعقدَتْ في عاصمتنا الجميلة الرياض.. هذه السيدة يُقَالُ إنها ناقدةٌ أيضًا، وهي مُكَرَّسةٌ في وسطنا الثقافي، وهي مِمّنْ يكثرُ ترحالهن من ملتقى إلى ملتقى، ومن أمسيةٍ إلى أمسية، ومن معرضٍ إلى معرض، ومن ندوةٍ إلى سواها. وهي كذلك تمثّل ثقافتنا في المناسبات الثقافية خارج الوطن. ويا قلبي لا تحزن. 12 في يومٍ من الأيام، دَخَلْتُ صالونَ حلاقةٍ، ارتميتُ على الكرسي، وأسلمتُ رأسي للحلاق الذي كان تركيًّا.. وكعادتي مع الناس وَدَدْتُ أنْ أمدَّ حبلَ التواصل مع الرجل فسألته عن اسمه، فأجاب: عزيز.. هنا قلتُ ممازحًا: أنت تذكّرني بعزيز نسين.. وإذَّاك بدتِ البشاشةُ جليّةً على محيَّاه وهو يقول: هذا من أهم الكتّاب عندنا في تركيا.. قلتُ: أعلم ذلك، ولكي يتأكد من أنني حقًّا أعلم، سألني بعربيةٍ صافية: ماذا قرأتَ له ؟ قلتُ: قرأتُ له “زوبك”، و”الطريق الوحيد”، و”بتوش الحلوة”، و”يحيى يعيش ولا يحيى”، وسيرته الطويلة تلك التي صدرت في لغتنا العربية في ألف صفحة.. سُرَّ كثيرًا ولمحتُ آثارَ دهشةٍ على وجهه.. ولكي تتسع تلك الدهشةُ، أضفتُ : ليس هذا هو التركي الوحيد الذي قرأت له إنما قرأت لناظم حكمت أعماله الشعرية الكاملة التي خرجَتْ للنور في مجلدين رائعين، وسيرته المليئة “الحياةُ جميلةً يا صاحبي”، و”مشاهد إنسانية” تلك التي كتبها في أربعة أجزاء وهو في المعتقل، وحين أدركتُ أنه أوشك أن يحضنني بصفاءٍ نادرٍ، أضفت: قرأت كذلك ليشار كمال روايته الجميلة “ميميد الناحل”، ورواية أخرى قصيرة بعنوان “الصفيحة”.. وهنا توهمتُ أن الرجلَ بدا يحلّقُ عاليًا حتى كادَ يلمس رأسُهُ سقفَ الغرفة وهو يسمعُ أسماءَ أهمِّ كتّابٍ من بلاده تتدفق من فمِ رجلٍ ليس تركيًّا.. ولكي أجعله يطير حقًّا ويلمس سقفَ السماء، قررتُ أن أمنحه أجنحةً إضافيةً فقلت: حتى السياسي التركي الشهير بولنت أجاويد كان شاعرًا.. صفَّقَ مبتهجًا وهو يقول: أين قرأتَ هذا؟ أجبت: في مختارات جميلة من الشعر التركي الحديث صدرت مترجمةً إلى العربية الصافية.. المهم هذه الحكاية جعلتنا صديقين حميمين منذ تلك اللحظة، واستمرت علاقتنا الإنسانية المليئة بالاحترام والمحبّة والود واللطف أكثر من خمسة عشر عامًا. الزبدة من هذا، هي: كلما احترَمْتَ ثقافةَ الآخر - مهما كان ذلك الآخر بسيطًا - وذَكَرْتَها أمامه بالخير والإعجاب منحَكَ قلبَهُ كلَّه وهو بكاملِ سعادته.. بل قد يجعلُ ذلك القلبَ الصغيرَ فندقًا لشعبِكَ الكبيرِ كي يسكنَ فيه.