«رجل تتعقبه الغربان»..

رواية البصيرة الناجية من الوباء. 

 لا تنشغل رواية (رجل تتعقبه الغربان) - منشورات دار العين 2022م- بتسجيل يوميات الوباء أو آثاره أو معاناة الناس اليومية تحت وطأته. ولا يعني ذلك أنها تهمل ذلك الجانب، بل هي تصوّر عبر التقاطات مكثفة وسريعة، ما تركه الوباء على وجوه الناس وهواجسهم وأيامهم. لكن سعيها الأعمق يذهب أبعد من ذلك كثيراً، إذ تحاول استكشاف المعنى الأعمق للوباء. ويضع المؤلف في الاقتباسات الممهدة للرواية، عبارة من المأثور النجدي “لا عيون الا بعد جدري”، ويأخذ هذه العبارة إلى دلالاتها الأقصى. إذ مثل عيون ما بعد الجدري، ما يفعله الوباء هو أنه يمنح رؤية جديدة، أي بصيرة أخرى. منذ الجد القديم للبطل الذي هام على وجهه هارباً من الوباء في “سنة الرحمة” إثر الحمى الاسبانية في العقد الثاني من القرن العشرين، والذي يعثر مع جندي منهك من بقايا الحرب العالمية الاولى، على منظار روسي، يفتح له أفقاً وبصيرة جديدة. وفي حين كان الجدّ غير قادر على فهم هذه الآلة العجيبة، يفسّرها بداية أنها من عمل الشياطين. مفارقة الرواية أن هذا المنظار الذي هو ثمرة العلم الحديث، والذي بقي في العائلة يتوارثه الأبناء بعد الآباء، ينتهي مع بطل الرواية “سليمان الزارع” الى أن يغدو آلة سحريّة مرّة أخرى. يرى البطل من خلاله ما لا يُرى ولا ينبغي أن يرى. في هذا المنظار الذي تبدأ وتنتهي به الرواية، أمثولة مكثّفة عن دورة الوباء. ما يفعله الوباء اذ يزعزع حدود العالم الواقعية الصلبة ظاهريّاً، ويفتح أفق المخيّلة وأفق الأسطورة وأفق الذكرى وأفق الحلم والكابوس، وتتبادل الكائنات المواقع، حين يتحجّر البشر فيما تتخذ الجمادات ملامح الأرواح الحيّة، ذلك بعض ما تستكشفه الرواية في معنى الوباء. وإذ تتجاور فصول الرواية، غير مرتبّة زمنياً إلا ببطاقة التاريخ في عناوين الفصول، مثل صور فوتوغرافية تنتمي الى أزمان مختلفة، بعضها حديث وبعضها متآكل الأطراف، إلا أنها دائما مثقلة بالتفاصيل. ذلك أن الزمن ذاته، بإيحائه الخطي المستقيم، والذي تشير له عبارة مثل “التقدم” مثلا، يكشف مع الوباء، عن طبيعته الملغزة، التي كانت تتخفى وراء اليومي والمعتاد، وتتخفى وراء أوراق التقويم وعناوين الصحف. يهزّ الوباء صلابة الزمن ذاته، وتغدو كلمات مثل الماضي والحاضر والمستقبل، شديدة الإبهام، وهو ما تحاول الرواية القبض عليه، عبر فصولها المتناثرة زمنياً. وفي فصل أخير ينظر البطل من نافذة بيته في الرياض، عبر المنظار القديم، فيلمح في الوقت ذاته، جدّه الهائم على وجهه هرباً من الوباء في عشرينيات القرن العشرين، كما يلمح ذاته هائماً في مدينة أوروبية مغطاة بالثلوج في زمن آخر. الزمن اللامعقول والمتشظي، زمن الوباء، هو بعض ما تحاول الرواية القبض عليه. إظهار الهشاشة البالغة للزمن العادي واليومي، سيفتح الرواية على زمن أسطوري، حيث تغدو الكائنات ذاتها، مليئة بالأسرار من جديد، حاملة للأمل أو للفزع، لبشر فقدوا صلابة الأرض التي يقفون عليها. هكذا تحضر الغربان، بكل إرثها الأسطوري، وتحضر الذئاب، وتغادر الأشجار سكينتها الدائمة. القرى النجديّة القديمة الغافية في ظلال نخيلها وأثلها، تغدو منكشفة على حضور كائنات مجهولة، تزعزع مصائرها وأقدار أهلها. هكذا يجد أحد أبناءها، “حمد الزارع”، وهو عمّ البطل، نفسه متطوعاً للمشاركة في حرب 48، مدافعاً عن أهلها الذين يشاركونه اللغة والعقيدة واللقمة والذكريات التي عاشها معهم أثناء تنقله في صباه مع العقيلات، تجّار نجد القدامى. وهكذا يجد، الجدّ في نجاته بحياته من وباء 1918، نفسه أمام جندي غريب من جنود الحرب العالمية الأولى، يهبه المنظار. وهكذا ينتهي بطل الرواية “سليمان الزارع” هارباً لثلوج مدينة أوروبية بعيدة. أقدار أبناء القرى النجديّة القديمة، حيث تمثّل نجد، بفعل موقعها الجغرافي في القلب من الجزيرة العربية، أبعد نقطة ممكنة عن كل تأثير خارجي أو تحوّل. ما تفعله الرواية، هو أن تصوّر انكشاف القرى النجدية، زمن الواحات المنسي خارج التاريخ، إذ ينفتح على التاريخ العالمي. تضيق الأرزاق وترتفع الأسعار، ويفاجأ والد البطل، أن ذلك بفعل الحرب العالمية الثانية، ويفقد أخاه شهيداً في حرب فلسطين. ما يفعله الوباء هو أنه يغدو أمثولة لهذا الانكشاف للتاريخ، للعالم. هكذا يغدو خطأ هامشي في معمل في مدينة ووهان الصينية أو تلميذاً يطلب العلم في مدينة قم الايرانيّة، مرتبطاً بفقدان البطل لأبيه، الذي يموت بسبب الفيروس. تستثمر رواية “رجل تتعقبه الغربان”، ما كان يمكن أن يكون مجرد ألم أو مأساة فرديّة، لكي تحكي تاريخ هذا الانكشاف الذي يتجاوز عمره قرناً كاملاً.   رواية (رجل تتعقبه الغربان) هي الرواية التاسعة في مشروع يوسف المحيميد الروائي، والذي يمتد لأكثر من عشرين عاما. وقد استكشف في أعماله الروائية مواضيع وتجارب مختلفة ومتنوعة التعقيد، من ثيمات الحب والموت والغربة والفقدان والعزلة، وإن بقيت لمسته الروائية الخاصة في كل ما كتب. إذ يمكن أن نلمح في إحساس المطاردة والاختناق، الذي يحيط ببطل (رجل تتعقبه الغربان)، ملامح بطل رواية (لغط موتى) الرواية الأولى للكاتب، والتي تصف اختناق بطلها المؤلف تحت وطأة مطاردة شخوصها المثقلة بحكاياتهم المنسيّة. القدرات التصويرية لمخيّلة نابضة بالحركة والحياة، والانفتاح على الحلم والكابوس، وتداخل المرئي واللامرئي، هي ما يمنح أعمال يوسف المحيميد تلك القدرة على التكثيف والاستكشاف العميق للمجاز ليبوح بكل طاقاته التعبيرية. كما بقي الاستثمار الفنّي والمتقن للوثيقة التاريخية منذ (فخاخ الرائحة) وصولاً الى هذه الرواية، واحداً من الملامح الفنية المهمة لرواية يوسف المحيميد، التي لا تنشغل بالتسجيل، فهي تدرك أن الوثيقة التاريخية أيّاً كان نوعها، هي دائماً في خدمة الرؤية الفنيّة للرواية وليس العكس.