قراءة في كتاب محمد علوان (لذاكرة الوطن)..

قضايا الوطن محلّيّا و عربيّاً وفكريّا في مقاربات مقالية تقريرية وصفية وسردية وتحليلية.

يضمُّ هذا الكتاب خمسة وأربعين نصّاً تنحو منحىً مقاليّاً انتقادياً تارة ؛ ووصفياً وسرديّا تارة أخرى ؛ و لكنها روح القاص التي لا تفارق صاحبها؛ فالعبارة النهائية تبدو أشيه بلحظة التنوير كما في القصة الأولى (من المقعد رقم 7) فيها النفس الإعلامي الإخباري الانتقادي عن المسرحية التي أنتجتها الجمعية العربية السعودية للثقافة و الفنون وهي بعنوان (ولد الديرة) كما فهمت من السياق ، وقد بدا واضحاً أن النهج الذي اتبعه الكاتب ،فضلاً عن أسلوبه السردي الوصفي، كان تحليلياً مشحوناً بالروح الوطنية و الرؤية المستقبلية الحافلة بمشاعر الانتماء الوطني . وفي اتجاه آخر كان يقتصر على التحليل في نبرة توجيهية تعليمية فتأتي المقالة المعنونة ب (نعم ولا) على سبيل المثال وهي مقالة تتوفر فيها عناصر البناء ،التي تشكّل بنية هذا الفن ،من مقدمة وعرض وخاتمة، فتحتفل بالتوطئة التمهيديّة التي تمثّل الخلفيّة النظريّة للموضوع متحدثاً فيها الكاتب عن دور العقيدة واستعمال العقل و الفطرة والحب؛ ثم ينتقل إلى العرض في فقرات كل فقرة تعالج فكرة ، وكل فقرة تقود إلى غيرها بانسيابية واضحة ، فقد تحدث عن القوة التدميرية للمخدرات ثم انتقل إلى دور الأعداء و البطالة ونمط الحياة الاستهلاكي في ترويجها ، ثم الاستفادة من تجارب الأمم في محاربتها وانتهى إلى ضرورة التكافل الاجتماعي في محاربتها في خاتمة مضيئة. وتتبدّى الروح الوطنية في منحىً ثالثٍ في هذه المجموعة وهي مناقشة الرأي الآخر الذي يتمثّل في الرد على الأستاذ تركي السديري في مقالة بعنوان (عن الإنسان ) وتنهض على فكرة أساس تتحدث عما قُدّم للوطن من إنجازات عمرانية ومادية كثيرة ؛ و لكن السؤال الأهم – كما يقول – ماذا قدمنا للإنسان؟ ردّاً على السديري الذي ينتقد استضافة بعض الرموز الثقافية التي تتحدث خارج إطار خصوصية الهموم الوطنية، فالمقالة ذات طابع حواريٍّ حجاجي. وفي إطار التأصيل التراثي للثقافة الشعبية وفنونها وامتداد جذورها حتى تلامس الموروث العربي تأتي مقالته المعنونة باسم إحدى الشخصيات التي تذكّر بهذا الموروث (عبد الرحمن الغسال) الذي – كما يقول – انبعث من ذاكرة واحد من عُمَد مدينة جدة ضمن برنامج تلفضى٨٤زيوني يتحدث عن القديم ، ويمثّل بطولة عنترة وعشقه غير المتوازن في نظر القبيلة لحبيبته عبلة . وفي هذا الإطار الوطني يأتي حديثه في مقالة أخرى عن (الجنادرية) مذكّرا بأنه “ من هذه الأرض من إيقاع السامري و مزمار الحجاز و حصاد الشرقية و رقصات الجنوب التي تضرب في أعماق التاريخ برز مهرجان الجنادرية كحدث ثقافيٍّ” حيث لقاء التعدّد وثراء الثقافة في هذا الوطن الجميل مبدياً اعتزازه بالصحراء و الجمل مُمثلاً بهاتين الأيقونتين الوطنيتين وكذلك بلبنان النبض العربي الأصبل معبراّ عن انتماء عروبي أصيل. ولم تغب عن باله المسألة التربوية في مقالته (مهند يسأل) حيث كان الطفل يسأل وأبوه يجيب إلى أن وقف على علّة العلل وهي (تحقبق الذات) في ظل هذه البرمجة القسريّة التي تمثلها أفلام الكرتون ( متى نستطيع أن نفعل ما نريد ؟) وفي هذا الإطار تأتي مقالته ( من أنواع الخوف العربي) التي يعالج فيها ما يعانيه الطفل العربي الذي يساق باكيا إلى المدرسة ضمن أقرانه الخائفين متنقلا في مراحل الدراسة المختلفة من خوف إلى خوف . ويعالج هموم الوطن وأنماط السلوك و المعاملات مقارنا بين المظهر المادي و السلوك الإنساني في مقالته (تحدث إلى البنك) مقترحا الحلول , إن البعد الوطني و مسألة الانتماء لا تفارقه في مختلف مقالاته ؛ ففي مقالته السرديّة التي تحمل عنوان (بيج بن - إلى أحمد أبو دهمان مع فارق التوقيت) يتحدث عن قصته مع الديك الوطني ومقارنته بالديك الفرنسي و تنبيهه لأوقات الصلاة ، ومن ثم انطلاقه للصياح بشكل فوضوي ، وحين شكى منه للبائع فسّر ذلك بأنه يراعي فروق التوقيت بين أقاليم المملكة الواسعة متحليا بلون من ألوان السخرية وروح النكتة وكأنه يشير إلى لونين من ألوان السلوك بين الوطني و الأجنبي ، ويغمز من خلال إشارته إلى أن الديك يمارس لوناً من ألوان العنصرية في تعامله مع الدجاجة السوداء في إيماءة انتقادية لا تخطئها البصيرة .وتتبدى روح الناقد في بعض مقالاته ( الشاعر وضمير الإنسان) مستشهدا بنماذج من الشعر الشعبي لشاعر من عائلة القايدي و للشاعر الأمير خالد الفيصل و الشاعر عبد الرحمن العشماوي كذلك. يورد الكاتب في مقالة سرديّة أخرى قصة الطالبة التي توفيت أثناء أدائها للامتحان وهي حامل في شهرها الأخير بعد أن رفضت مدرستها تأجيل الامتحان لها في مقالته المعنونة (خبر بسيط ،امرأة تموت)، حيث يلامس البعد الإنساني مشيراً إلى روح القانون وأهمية التقيّد بروحه وليس بنصّه وضرورة مراعاة وضع المرأة عند سن القوانين أسوة بما يحدث في الغرب حيث تمنح المرأة العاملة الحامل امتيازات كثيرة. وللصحافة و الإعلام نصيبهما الوافر في مقالاته فيتحدث عن التراتب الوظيفي في مجال الصحافة وحقوق العاملين فيها ، وضرورة تنظيمها لحفظ الحقوق وضمان العدالة في هذا المجال الحيوي ، مشيراً إلى دور الإعلام الوطني الذي يعمل على جبهتين متوازيتين في الداخل و الخارج: بث المعلومات عن البلاد دون حاجة إلى تعظيم أو تهويل، وامتلاك الأسلوب و الأداة في الإقناع و التأثير وتحرّي الحقيقة و الجهد الفني ، و لابد من إعطاء الأمور حجمها الطبيعي ليكون الإعلام مكملاً لخطة التنمية التي من أهدافها توعية المواطن و إرشاده . ويعالج العلاقة بين الأدب و الرياضة، ويطالب بما يسميه الحوار النظيف ؛ هو لا ينكر دور الرياضة ؛ فهي مفيدة للحركة الفكرية كما يقول ؛ تعمل على توليد الأفكار؛ ويقارن بين الفرق في الاهتمام بين الأندية الرياضية و الأندية الثقافية و ما تحظى به الأولى من الرعاية مطالبا بمزيد من العناية بالمؤسسات الثقافية, وقد اهتم بأعلام الأدب وروى عنهم الطرائف وحاورهم ؛ ففي مقالته (نظرية جديدة المسح بالبلاط ) للكاتب الساخر علي العمير مستذكراً المازني و البشري وصاحب البيان و التبيين ، وعلى غرار ماسبق أن كتبه تحت عنوان (الكلمات الممنوعة) حيث يقترح في نهاية المقال على المسؤولين في الصحافة إصدار لائحة بالكلمات المحظورة. ولم تغادره قط ملكة السرد ولغة المجاز ، فهو يمسك بهما في مقالاته التي تمسّكت بمحطتها الفنية ، فهو يتحدث عن الغناء و يمتح من الذاكرة مشاهد الغناء و الرقص في الجنوب ويختار عنوانا للمقالة (الغناء الغناء) يكررهذه المفردة مرتين ، ويرى أن مغادرة هذا الحس الفني أفضت إلى سلوك جاف في تعامل البعض. وفي مقاربته لفن الغناء و الرقص يشير في مقالته (نحن والأغنيات) إلى رقصة السامري التي تذكرنا ببعد الصحراء ، وهي التي توحي بالثقة والأمن ، ثم لا تلبث الريح والغبار أن تقلب الموازين كما ترتفع الأكف في السامري بكل قوة ثم يعاودها الهدوء مرة أخرى لتحمل الأكف الدفوف في شكل اعتذار جميل صامت ، و حين تقترب الأغنية من البحر تصبح حديثاً مع المجهول خوفاً و رعباً مشوبا بالحذر. لقد توسع محمد علوان بمفهوم الوطن فلم يقتصر على المملكة العربية السعودية بل شمل أقطار العروبة كافّه ؛ فهو يدبّج مقالاته لتشمله من الخليج إلى المحيط بحسّه الانتقادي ،ويتابع الإيقاع العروبي في مقالته المعنونة (أنت ترعبهم بسجنك) متحدّثاًعن أحد أبطال الانتفاضة الأولى (محمود عودة الكرد) الذي حكم عليه بأربعة مؤبدات معتبراً إياه أربعة أشخاص نموذجاً للمقاومة المرعبة للعدو. وفي مقالاته هذه وغيرها نزعة تحليليّة تصنيفية تشير إلى التحوّلات و المنعطفات ؛ غير أن روح الفنان تظل هائمة تلتقط ذبذباتها و نبضها؛ فهاهو في مقالة بعنوان (فيروز و الفقراء) يتحدث عن الحب و الغناء و البحر و الجبل و الينابيع و الثلوج كيف تحول كل ذلك إلى رصاصة عمياء ، ثم أنهاها بإضاءة يقول فيها : “يا لبنان خرج منك الجميع و تركوا لك فيروز و الفقراء”. ويأخذ منحى تأمّليّاً يسبر فيه أغوار الواقع العربي في مقالة له بعنوان (قبائل سنة 2000) فقد تحدّث عما أفرزته حرب الخليج في مختلف الأقطار العربية في توصيف دقيق للعلل التي يعاني منها كل بلد عربي في العراق و الصومال و السودان ومصر ومغالطات الخطاب السائد حول الكيان الصهيوني مشخّصاّ للأدواء و الدواء متمثلةً في التعليم والبناء من الداخل والمعافاة من الأمراض والتكامل و المحبة و العطاء والهروب من القبيلة إلى العصر الحديث حيث ظلت القيبلة في داخلنا . وفي نظرة تأملية تحليلية ثاقبة يخرج عن التصنيفات الثنائية المألوفة فيتحدّث عن صنف ثالث بين الأصدقاء و الأعداء يسميهم (الأعدقاء) في رؤية عميقة للمجتمع والعلاقات السائدة فيه ، وفي هذا الإطار يعالج مسألة مهمة تتعلق بأنماط الشخصية في حديثه عن حادثتين من حوادث الانتحار (خليل حاوي) و(سناء المحيدلي) وما تناوله الشاعر الكبير محمد العلي حولهما في زاويته (فيها قولان) وعنوان المقالة (تلك مسألة دقيقة) وإشارته إلى موقف المتنبي من الحياة و الموت (حب الجبان النفس أورده التقى) و (حب الشجاع النفس أورده الحربا) ورغبة الإنسان في التفوق و(الهروب من المذلة للآخرين) ولم تكن مقالاته بمنأى عن القضية المركزية والخطاب السياسي حولها؛ ففي مقالته المعنونة (شكرا ياسيادة الرئيس) يلامس هذه القضية من زاوية العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيوني. و في بعض مقالاته يقترب من فن القصة القصيرة حد التماثل ؛ ففي النص الموسوم ب (القطة لا تمسك ذيلها ) يروي على لسن السارد العليم قصته مع الطبيب ، وما همس به لوالده وما خالجه من حالة بين الخوف و الجبن مستدعياً أبا الطيب المتنبي الذي فضح النفس العربية كما يقول (الحدة والعنف و الاستياء و التذمر) ومن ثم جاء بحدثٍ رمزيٍّ موازٍ كان بمتابة لحظة التنوير لهذا الحدث حين تكلم عن القطة مختتما قوله “الحركة الدائرية لا تكتمل في كل الحالات” وخلاصة القول فإن هذه المقالات التي زخر بها الكتاب قد عبرت عن رؤية وطنية إنسانية عبر ثلاثة محاور : مقاربات وطنية حول قضايا الوطن محلّياًّ وأخرى توسعت لتستوعب البعد العربي ،ثم البعد الفكري الذي يعبر عن رؤية الكاتب في مرحلة تاريخية بالغة الحساسية .