نبيل شعث في «عودة إلى الوطن»..

إسرائيل تبيع الوهم للفلسطينيين.

هذا هو الجزء الثالث من سيرة حياة السياسي الفلسطيني نبيل شعث، وهذه الجزء ضخم كسابقيه رغم أنه لا يغطي أكثر من ست سنوات ، من عام ١٩٩٤ حتى عام ٢٠٠١، وهي الفترة الممتدة بين توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة وانتهاء بفشل مفاوضات الحل النهائي عام ٢٠٠٠ م . يقول الكاتب أن دافعه الرئيس أن يكشف لأبناء شعبه ، ولجميع المهتمين بقضايا الأمة ، بعضا مما أتاح له مشوار العمر الطويل من خبايا وحقائق، ومن أحداث عاشها وانغمس فيها تماما ما يزيد على نصف قرن. عاد نبيل إلى غزة مبكراً بعد اتفاق أوسلو ، وبدأ عمله لتثبيت السلطة على الأرض الفلسطينية ، ثم توسيع الأراضي التي تقوم عليها على أمل الوصول في نهاية المرحلة الانتقالية إلى حل الدولتين ، يكون فيه للفلسطينيين دولة كاملة السيادة على ٢٢ ٪ من أرض فلسطين ، عاصمتها القدس الشرقية وأن يصاحب ذلك تحقيق عودة الفلسطينيين اللاجئين والنازحين إلى أرضهم . عمل نبيل شعث مفاوضا رئيسا ووزيرا للتخطيط والتعاون الدولي. وقد تضمن التخطيط عملا جبارا كان واضحا ما كان فيه من الإجادة والرؤية السليمة التي كانت تريد تحرير الاقتصاد الفلسطيني من تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي ، وهي قضية تسبب مخاسر اقتصادية كبيرة للفلسطينيين. كذلك كان العمل على تحوير الأنشطة الاقتصادية لتحقيق مكاسب للدولة المُتوقعة، مثلا التحول نحو اقتصاديات البرمجة الإليكترونية، واستثمار الغاز على ساحل غزة وتحقيق التحول الزراعي نحو الزراعات التي تصلح للتصدير، وكذلك السياحة الدينية. عندما تمخر عباب صفحات الكتاب الستمائة وتمر على مئات الاجتماعات مع مئات السياسيين في جميع أنحاء العالم وقارات الدنيا ، شرقا من اليابان حتي أمريكا اللاتينية غربا مرورا بكل قارات العالم ، تجد كما قال الناشر في المقدمة : تناوب الإنجاز والإخفاق ، والنجاح والفشل، والتفاؤل والإحباط ، والأمنيات الطيبة وصدامها مع الواقع. التقى الرجل بالعشرات من السياسيين والاقتصاديين من جميع أنحاء العالم في سبيل تحقيق الحلم بدولة فلسطينية على خُمس أرض فلسطين ، والتقى عشرات المرات بالصهاينة للوصول إلى حلول، ولا شك أن الجهود التي قام بها الرجل لتنوء بالعصبة أولى القوة، وبعد ذلك كله وحين يُرهَق القارئ من المتابعة والتفاصيل يجد أن كل ذلك كان مثل المراوحة في المكان ، مهما بذل صاحبه من الجهد فلن يتقدم امتارا ، وتبين أن الصهاينة كانوا يبيعون الفلسطينيين - الذين صدقوهم- الوهم . وأن العالم كان يُشعر الفلسطينيين بانه يتفهم معاناتهم وتضحياتهم و لكنه لا يملك لهم إلا أن يحثهم على التفاوض ، وأمريكا بعد أي إشارة منها إلى التجاوزات الصهيونية تعجز عن فرض شيء على الصهاينة ، وتحمل الفشل للجانب الفلسطيني الضعيف ، تطالبهم بالمزيد من التنازلات ، وكما قال الرجل : أُخرجنا من بلادنا ، وعرضنا ان نعيش مع اليهود في دولة واحدة لجميع مواطنيها فرفضوا ، ثم تنازلنا الى دولة على خُمس ارضنا ، ورغم ذلك نُطالب بتنازلات لتعيد إسرائيل إلينا بعض حقنا . قارئ هذه المذكرات لا بد أن يعترف بحسن النية للمؤلف و لرئيسه عرفات، اختاروا هذا الطريق بعد أن لم يعد إخوانهم العرب قادرين على تحمل أن يتحركوا ضد اسرائيل من أراضيهم ، بل وحصل قتال بينهم وبين إخوانهم ، فلماذا لا يجربون عملية السلام، قدم الفلسطينيون لإسرائيل مفاتيح العالم العربي ، يذكر شعث أن اسحاق رابين طلب من عرفات عشية توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن مساعدته في تسهيل زيارته للمغرب في طريق عودته إلى تل أبيب ، لأنه يريد أن يقول للإسرائيليين عند عودته “ هل رأيتم ؟ عندما وقعت اتفاق سلام مع الفلسطينيين بدأت أبواب الدول العربية تُفتح لقادتكم وستُفتح لكم ، وهذا لم يحدث عندما وقعنا اتفاقا مع مصر ! “ ، ولكن ذلك كله كان قبض ريح. فقد استفاد الأمريكيون والصهاينة من الضجيج الذي يصاحب نشاطات ادارة عملية السلام من مؤتمرات واجتماعات وكاميرات ، وخلقوا انطباعا بأن السلام يتحقق ، وأنهم قد أصبحوا أصحاب البيت، فاز الإسرائيليون بجميع الجوائز ، وفشل الفلسطينيون في الحصول على أي دعم لأي مشروع حيوي، فقد استطاع الصهاينة والأمريكان تعطيل كل ذلك. أوضح مثال أنه بعد زيارة رابين المشار إليها دعا الملك الحسن في المغرب إلى مؤتمر قمة الدار البيضاء الاقتصادي الذي حضرته واحد و ستون دولة وحوالي ألفين وخمسمائة من رجال الاعمال ، وأعلنت أمريكا انفتاح المجال للتعاون الاقتصادي، حضر بعده شمعون بيريز مع سبعة من وزرائه إلى المغرب، اجتمعوا مع ملك المغرب و بدأ ترتيب للعلاقات الاسرائيلية بخمس دول عربية ، مثلا تم التباحث مع حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري على تصدير الغاز القطري إلى اسرائيل، و هكذا بدأت إسرائيل تجنى الثمار قبل أن يتحقق للفلسطينيين شيء من مطالبهم المشروعة. و نظرا لطول المذكرات فإننا سنتجاوز التفاوض مع حكومات رابين وبيريز ونتنياهو وسنتحدث عن المرحلة الأخيرة ، التفاوض مع إيهود باراك في مؤتمر كامب ديفيد في يوليو ٢٠٠٠م. حتى هذه اللحظة كان ما وصل اليه الطرفان عبر مفاوضات دارت ست سنوات هو: تقسيم الضفة الغربية الى ثلاث مناطق ، منطقة (أ) الأصغر مساحةً وتضم المدن الكبرى و مساحتها جميعا ٧٪ من مساحة الضفة، انتقلت فيها الصلاحيات الأمنية والمدنية إلى الفلسطينيين ، و منطقة (ب) و تشمل القرى وبعض المناطق المحيطة بالمدن و تصل مساحتها إلى ٢٤٪ من مساحة الضفة، انتقلت الى الفلسطينيين فيها الصلاحيات غير الأمنية، و منطقة (ج) و تضم باقي الضفة الغربية وتبلغ ٦٩٪ من مساحة الضفة وبقيت فيها كامل الصلاحيات مع الدولة الصهيونية، إُدخلت تعديلات طفيفة على تلك النسب في مؤتمر واي ريفر إلا أن أغلبها لم تُنفذ، و لم يكن هناك أي تقدم في موضوعات القدس والحدود واللاجئين والمياه والمجال الجوي، وبالمقابل فقد حضر كلينتون جلسة المجلس الوطني الفلسطيني التي أُعلن فيها إلغاء أي مادة معادية لإسرائيل أو تشير للكفاح المسلح. رفض باراك تطبيق مقررات مؤتمر واي ريفر، لأنه لا يريد أن يتخلى عن أوراق الضغط على الفلسطينيين. في أول لقاء لهما بعد انتخابه، فاجأ بأراك عرفات باقتراح أن يتوجه الطرفان لمفاوضات الحل النهائي، وكان عرفات يرغب في تنفيذ اتفاقات واي ريفر، مثلا أن يتوقف الاستيطان في باب العامود (القدس)، وايقاف اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، ورفع الحواجز العسكرية، إلا أن باراك كان يتهرب من ذلك بادعاء أنه يريد وقتا لدراستها. و في لقاء تالٍ وضع الرئيس مبارك في نهايته يده على كتف باراك بينما كان يوقع مع عرفات على جدول يتضمن تنفيذ ما بقى معلقا في المفاوضات المسبقة و موعد التفاوض للمرحلة النهائية. و قد تضمن الاتفاق نصا يفيد بأن مفاوضات الحل الدائم ستنتهي إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة ٢٤٢، و قرار ٣٣٨, بما يعني عودة أراضي الضفة الغربية و القطاع إلى الفلسطينيين، وطبعت مادلين أولبرايت قبلة على خد الرئيس عرفات مهنئة بما تم التوصل إليه. كل ما استطاع عرفات أن يحققه خلال التحضير للمؤتمر أن يحصل على وعد من كلينتون بعدم إلقاء اللوم على الجانب الفلسطيني في حالة الفشل. خلال مفاوضات كامب ديفيد هذه تمسك الصهاينة بالسيطرة على القدس و الأمن ورفض عودة اللاجئين ، أما الفلسطينيون فقد أعلنوا استعدادهم لقبول قوات دولية على الحدود، و تبادل أراضٍ بما لا يزيد عن ٣٪ من مساحة الضفة والاستعداد لتحمل المسؤولية عن الأمن. استدعى كلينتون عرفات لإبلاغه مشروعا أمريكيا إسرائيليا بشأن تقسيم القدس الشرقية يُمنح الفلسطينيون فيه السيادة فقط على قرى محددة أو مدن صغيرة ضُمت إلى القدس عام ١٩٦٧م ، رد عرفات بأنه لا يستطيع العودة إلى شعبه دون القدس الشرقية وأنه يفضل الموت على ذلك. كان الوفد الفلسطيني قد أعلن أنه يريد القدس الشرقية كلها، ووافق أن يكون الحى اليهودي والحائط الغربي تحت السلطة الإسرائيلية لا السيادة الإسرائيلية، وأن تبقى القدس مدينة مفتوحة ، وسيتعاون فيما يتعلق بالخدمات البلدية ، قال الإسرائيليون أنه من الممكن إعادة أراضي ٨٠٪ من الضفة الغربية بالتدريج وعلى مدى يصل إلى ٢٥ عاما على أن تكون مقسمة إلى ثلاثة كانتونات دون اتصال جغرافي بينها وتحاط كل منها بمناطق تحت السيادة الاسرائيلية، وعرضوا أن تصبح قرية أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بديلا عن القدس الشرقية التي لن يتخلى عنها الصهاينة. أما اللاجئون فعرضت إسرائيل المساهمة مع المجتمع الدولي في توطينهم في أماكن وجودهم مع الموافقة على عودة عشرة الاف منهم فقط وعلى مدى عشرة أعوام. وأصر الصهاينة على السيطرة على كافة نقاط العبور الحدودية إلى الخارج، وعلى أن تملك الدولة الصهيونية الفضاء الجوي وكذلك مصادر المياه الجوفية. وكذلك طالبوا باستئجار عشرة في المئة من أراضي الضفة الغربية لمدة خمسة وعشرين عاما، وحددوا الأرض الخصبة في وادي نهر الأردن لذلك، مما يعنى استثمارها اسرائيليا للزراعة والاستيطان إلى الأبد. هكذا وصل الطرفان إلى الفشل وحمل كلينتون عرفات المسئولية عن ضياع فرصة السلام ، خلافا لما تعهد به من قبل. بل وقال مهددا لعرفات : إنك ستخسر صداقتي. أما ما قاله في اجتماع ثنائي بعرفات أنه يحترم مواقفه الحازمة والثابتة ، ولكنه لم يقل ذلك في العلن. قام كلينتون بالاتصال بالرؤساء والملوك العرب آملا منهم إقناع عرفات بتغيير موقفه ، وبدوره قام نبيل بالاتصال نيابة عن عرفات بالرئيس حسنى مبارك و السيد عمرو موسى ، والأمير سعود الفيصل و بابا الفاتيكان ، لم يحاول أحد أن يقنع الطرف الفلسطيني بتقديم التنازلات ، ولكن نصحوا بالصبر و الصمود والاستمرار في المفاوضات. أعلن شارون عن عزمه على زيارة المسجد الأقصى في نهاية أيلول عام ٢٠٠٠م ، ودعا باراك عرفات الى العشاء في بيته الريفي، وهناك أبلغه بموافقته على زيارة شارون، حذره عرفات من ذلك، لكنه لم يستجب، وقام شارون بزيارته الاستفزازية في حماية ثلاثة آلاف من الجنود الصهاينة وصرح بأن الحرم المقدسي سيبقى جزءا من أرض اسرائيل، وانفجرت الأراضي الفلسطينية بمسيرات الاحتجاج. وتطورت الأحداث إلى الانتفاضة الثانية التي جابهها الصهاينة بالعنف الشديد، استشهد أربعة آلاف وأربعمائة فلسطيني وجًرح ثمانية وأربعون ألفا، بينما قُتل من الصهاينة ألف وتسعة و ستون، وجرح منهم أربعة آلاف وخمسمائة، وعمليا انتهت أوسلو وما نشأ عنها من أوهام السلام عند زيارة شارون المشؤومة، و منذ ذلك الحين يتحدث الجميع عن مفاوضات لا يمكن انعقادها ولا تعد بشيء للفلسطينيين إن انعقدت، وهكذا كانت فلسطين تتهيأ لطوفان الأقصى.