سرد الهامش في نماذج من روايات يوسف المحيميد.

تتجه بعض مسارات النقد الحديث نحو نقد ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي والنقد النسوي صوب البحث فيما وراء النصوص الأدبية، وتحرير القراءة من الانغلاق على النصية فقط على اعتبار أن السرد ليس عملا فنيا فقط، بل هو أداة لإنتاج الوعي والمعرفة بالذات. وأن السرد قد ينتج خطابا مضادا لما تنتجه الثقافة المهيمنة، وهو في الوقت نفسه يكشف عن الأنساق العميقة التي أنتجتها الثقافة ورسختها بفعل الزمن وقوى الهيمنة. وبذلك يمكن أن تتوسع دائرة القراءة للبحث فيما وراء الخطاب والبحث عن عوامل تشكله والقوى المهيمنة التي تتحكم في إنتاجه أو إعادة إنتاجه مرة أخرى، وامتلاك الخطاب هو امتلاك للسلطة وأداة للهيمنة، ويمكن أن ينسحب هذا على فعل الكتابة وعلى الكتابة الروائية باعتبارها أحد أنماط الخطاب التي يمكن أن نتمثل فيها صراع الخطابات وصراع قوى الهيمنة والسلطة، وقد يكون ذلك بالدخول في مناطق المسكوت عنه والجدل مع أنماط الهيمنة ومكامن سلطة الثقافة وتعريتها، ومحاولة إنشاء خطاب مضاد للنسق المهيمن. وهنا يمكن الحديث عن سرد ينحاز للمهمش موضوعا وعوالم تقف في مواجهة المجتمع ومفاهيم الثقافة المهيمنة، وشخصيات تعاني التهميش فتقف ما بين العجز أو الهروب أو التمرد، فيتحول الهامش إلى الأدب ليصير مرجعا تخييليا في محاولة لمعاكسة الخطاب الرسمي من خلال تصوير عالم المهمشين وإفساح المجال للشخصيات المنبوذة كي تتكلم وتصنع خطابها الخاص، وبذلك ينتقل المهمشون إلى المركز ويمسكون بزمام سلطة الخطاب. تكشف قراءة عدد من روايات يوسف المحيميد مثل (الحمام لا يطير في بريدة)، و(فخاخ الرائحة) و(القارورة) و(أكثر من سلالم) عن هذا الانحياز للمهمش وبناء خطاب سردي يحاول أن ينطق بصوته، ومن هنا يميل أغلب تلك الأعمال صوب سرد الذاكرة الذي يفتح المجال للغوص في أعماق الشخصيات واكتشاف أعماقها، جنبا إلى جنب مع السارد العليم الذي يهيمن أحيانا ليعلق ويدين ويبرر ويسمح بتوجيه الشخصيات والحدث. وانطلاقا من ذلك يُبنى العالم السردي غالبا على ثنائية مركزية: الفرد/المجتمع (المدينة)، وغالبا ما يعيش الأفراد في ثنائية تضادية قد يختصرها مفتتح رواية (الحمام لا يطير في بريدة): “ أقسى العذاب أن توهب عقلا محتجا في مجتمع غير محتج “ (عبد الله القصيمي). ومن ثم يهيمن صوت الإدانة وتتوجه الشخصيات غالبا صوب رفض المجتمع وإدانته، ويبرز الانقسام الواضح بين (الأنا)/ و(هم) كما نراه بين فهد السفيلاوي والمجتمع في (الحمام لا يطير في بريدة) أو في الثنائية التضادية: (الوطن / أمريكا أرض الأحلام) عند رشا في (أكثر من سلالم)، ليصل الأمر بكثير من الشخصيات إلى الرحيل والهرب، أو الاستسلام والصمت. وفي إطار هذه الثنائية المركزية يُبنى العالم السردي على شخصيات مقموعة ومهمشة، تعيش أزمتها وخوفها وتمردها السلبي، إن صح التعبير. هي شخصيات تدرك هامشيتها كما يقول طراد في (فخاخ الرائحة): “حتى الاسم لم يكن مثل أسماء الناس في هذه المدينة الجحيم ... اسم لا يحمل في نهايته ألف لام التعريف اللعينة مثل العائلات المعروفة في هذي البلاد ...) (ص 36). ومن ثم تعيش هذه الشخصيات على هامش الحياة وتحت سلطة المجتمع: رجال الدين، الأسرة، نظام القبيلة، موقع المرأة.. وغيرها. وتعيش أيضا تشوهها الجسدي والنفسي، ومن ثم تظل مأزومة تدين ذاتها قبل أن تدين الآخر. تكشف لغة السرد بصورة واضحة عن هامشية الشخصيات ومعاناتها، كما تكشف عن تلك الثنائية التضادية بين الفرد والمجتمع، فغالبا ما تميل لغة الشخصيات المهمشة صوب الاستسلام والخضوع ووعي الهامشية في حين تهيمن لغة الأمر والقوة على من يمثل الفئة المهيمنة في المجتمع. مثلا، تعبر لغة منيرة الساهي في (القارورة)، عن استسلامها: (كنت أنثى، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول لي ولا قوة ...) (ص 98). ويمكن ملاحظة الأمر نفسه في مقابلة بسيطة بين لغة فهد وعمه في (الحمام لا يطير في بريدة) حيث تتداخل لغة السرد والوصف مع لغة الشخصية لتبرز مدى ضعف فهد وهامشيته: (فهد تجمد، تخدرت أصابعه)، (صاح عقل فهد بصمت)، (نمت غارقا بالدمع والحزن والحنين ....)، لتتغير اللغة مع العم: (اقتحم منزل فهد)، (فرض سماع الأشرطة)، (زعق، صرخ، أنت ما تفهم، وين كنت يا السفلة ...). وهي نماذج تتعدد وتبرز وتبرز مدى التناقض بين الشخصيات الرئيسة ومجتمعها، ومحاولتها العبثية لبناء هوية اجتماعية خاصة تسمح بوجودها الاجتماعي، ويتعلق الأمر قبل كل شيء باعتراف الآخرين بها. وغالبا ما تقوم الهوية الاجتماعية، كما يرى علماء الاجتماع، على اللقب العائلي وعلى الانتساب إلى عائلة، أو الانتماء إلى أصل وعلى الجنسية والمهنة والدين والطبقة الاجتماعية، وهي انتماءات تعطي للأفراد علامات أن يكونوا موجودين اجتماعيا، وهو ما لم يتحقق لأغلب الشخصيات، ومن ثم انتهى الأمر بها إلى أن تظل مشوهة، ومأزومة نفسيا وعاطفيا. تتبنى الروايات تقنيات سردية متنوعة، ويظهر فيها التوثيق والحكاية داخل الحكاية جنبا إلى جنب مع السرد المباشر وغير المباشر، في محاولة لكشف مدى تناقض تلك الشخصيات المهمشة، وعوالمها المأزومة أمام مجتمع هيمنت فيه قوى ثقافية واجتماعية ودينية رسخت هيمنها بكل الوسائل. ويلاحظ أن كل من حاول التمرد على تلك القوى يتعرض للعقاب (طراد، منيرة الساهي، فهد ، طرفة ، رشا ... وغيرهم)، وكل سينال عقابه بطريقة تتواءم وحجم التمرد. لقد كانت الشخصيات في الأغلب سلبية ومستسلمة، أو يأتي تمردها سلبيا ضعيفا، وكأن السارد حين يعاقبها أو يقودها إلى مصيرها يعمق من هيمنة السلطة/المجتمع، لكنه – في الوقت نفسه – حين ينتهي بها إلى الهروب أو الصمت أو العزلة يحاول الحفر في تلك الهيمنة لينشيء خطابا مضادا يُحضر فيه تلك الشخصيات إلى الواجهة ليكشف معاناتها، كما يكشف عمق تناقض سلطة الثقافة والمجتمع وازدواجيتها. وبذلك يؤكد على أهمية الوعي والدور التنويري الذي يمكن أن يضطلع به الأدب، ويسهم بشكل مركزي في بناء خطاب سردي مضاد يمتلك أدواته الفنية وعوالمه الغنية التي تنفتح لقراءات غير متناهية.