منذ أن بشرنا معالي المستشار تركي آل الشيخ بإعلان جائزة القلم الذهبي برئاسة أستاذنا البروفيسور سعد البازعي ونحن نستشعر دفعة الحماس في حنايا الساحة الأدبية في المملكة، إذ انتفض الكتاب في كافة الأصناف السردية للترشح للجائزة، وتجاوز عدد النصوص المقدمة للجائزة عدد الثمانمئة حسب آخر تصريح لرئيسها على منصة إكس. ولا شك أن زحام النصوص هذا ليس لمجرد الفوز بالجائزة المالية، بل هو لاحتمالية ترشيح أربعة من النصوص لإنتاجها كأفلام سينمائية، وهذا حلم لكل كاتب أن يخلد نصه على الشاشة الفضية. لكن يبقى السؤال: هل تحويل النص الأدبي إلى نص سينمائي يزيد من قيمته؟ حينما نتحدث عن قيمة النص الأدبي فنحن نتحدث عن النص الكلاسيكي، ذلك النص الباقي الذي يجد فيه المرء تجربة تستحق الخوض في مختلف فترات نضجه كإنسان، نعني ذلك النص الخالد العابر بقيمه مخترقا الأزمان والأيدولوجيات والظروف، هو النص الذي تقدره الأغلبية وتتذوقه النخبة. قيمة النص الأدبية لا تعني بالضرورة المدخول المادي من النص، بل غالبا ما يتفوق المنتج السينمائي في المدخولات على نظيره الأدبي إذا درس المخرج الشريحة التي سيوجه لها الفيلم وأتقن إنتاجه، لأن أعداد الراغبين في مشاهدة القصة في القالب السينمائي بطبيعة الحال تتفوق على أعداد من يفضل قراءتها. تحويل النص الأدبي إلى فيلم لا يعني رفع القيمة الثقافية وإن ارتفع مدخوله المادي. بل هناك احتمالية التضحية بجزيء من جوهر العمل الأدبي في حال تحويله إلى فيلم، ولم يغفل عن مغبة تحويل النصوص الكلاسكية إلى أفلام مخرجون عالميون مثل ألفريد هيتشكوك، الذي يعد من فئة Auteur وتعني المخرجين المتميزين بطابعهم الخاص في الإخراج فتكون بصمتهم الإبداعية مماثلة للكاتب Author المتميز بأسلوب متفرد. ويلخص هيتشكوك - مخرج أفلام المختل (سايكو) والطيور- نظريته عن اقتباس الكلاسيكيات في حوار مع فرانسوا تروفاوت نشر في 1983. حين سأله تروفاوت عن عزوفه عن تحويل نصوص كلاسيكية مثل "الجريمة والعقاب" لأفلام، يجيب هيتشكوك: " إن (الجريمة والعقاب) هي إنجاز شخص آخر، فإن حولتها إلى فيلم سيخفق على الأرجح"، ويرمي هيتشكوك بوصفة رواية فيودور دوستويفسكي بكلمة "إنجاز" أنها وصلت إلى قمم التعبير الإنساني، وأن تحويلها إلى فيلم لا يمكن أن ينقلها إلى آفاق تتجاوز ما وصلت إليه، فهي في مرحلة اكتمال كعمل إبداعي. وحين سأله المحاور: "تعني بهذا أن روائع الأدب وصلت إلى مستوى الكمال النصي؟" فيجيب: " إن لكل كلمة وظيفة في رواية دوستويفسكي" وأنه يفضل في اختيار الأعمال التي يقتبسها في أفلامه أن تكون أعمالا "مغمورة" و "لا تتميز بالعمق أو التعقيد" ليضفي عليها بالقالب السينمائي أبعادا أعمق. نظرية هيتشكوك هذه تفسر ما أرتآه منطقيا في عزوفه عن تحويل الكلاسيكيات الأدبية إلى أفلام. فالنص الكلاسيكي هو كيان موحد مكتمل لا يمكن فصل جزء منه عن الآخر والاكتفاء بهذا الجزء في القالب السينمائي، بل وإن محاولة نقله هي عنف سيشوه هذه الوحدة وينقلها مشذرة ومبتورة، لأن التحول من قالب اللغة المكتوبة إلى قالب التصوير السينمائي "السمعبصري" يقارن بمحاولات نقل جسد الإنسان عبر الأثير، والتي لم تنجح لأن الجسد سيتحول إلى هباء منثور. وربما يتضح قصور القالب السينمائي عن تحقيق نجاح وخلود النص الأدبي في مسرحية هامليت لشيكسبير التي تم تحويلها إلى أكثر من خمسين فيلما من أشهر مخرجيها أوليفييه في 1948 وزيفريللي 1991 براناه 1996 ودوران 2009. هل تمتد لعنة النص الكلاسيكي المقاوم للاقتباس إلى نصوصنا المحلية؟ بعيدا عن المجاملات والتحيزات في الساحة الأدبية في تصنيف ما يعد من كلاسيكيات الثقافة وبعيدا عن رأيي الشخصي القاصر فالأدب مسألة تذوق، لكن هناك كتّاب لهم أعمال ترتقي لهذه الفئة حين نستحضر ما يوصف بالعمل الكلاسكي مثل بعض أعمال القصيبي رحمه الله وأميمة الخميس والدكتور محمد حسن علوان وغيرهم من الكتاب السعوديين الذين تطول القائمة وتثقل بأعمالهم التي تعد من الكلاسيكيات، ورغم إصراري على محاولة اقتباسها لأننا في مرحلة محورية تاريخية نحتاج فيها أن تكون ثقافتنا مؤثرة على الصعيد العالمي باقتباس أعمال لها أثر ثقافي، إلا أني أخشى أن بعض هذه الأعمال لن يكون لها نفس الأثر الذي يخلقه النص الأساسي لأنها بحد ذاتها تخلقت ككائن مؤثر يتغلغل في عقل القارئ و يترك بصمة لا تنسى. *أستاذ مساعد في الأدب المقارن والدراسات الثقافية