سقف الكتب

تجولتُ في معرض المدينة المنورة للكتاب الذي أقيم قبل أسابيع قليلة، ومن الطبيعي جداً ملاحظة الفرق بين المعرض المحلي والمعرض الدولي، وكذلك بين دار النشر المحلية والأخرى العربية. هذه إحدى مآسي الكتاب لدينا، ومعاييره المحلية. فرق شاسع جداً في الحضور والزخم، ليس لأن المعارض الدولية في الرياض وفي جدة، بل لأنها ببساطة معارض (دولية). *** إن التفسير الحقيقي والأقرب للواقعية في زيادة الإقبال على معارض الكتاب الدولية في المملكة هو أن هذه المعارض شكّلت المواسم الوحيدة التي تلبّي احتياجات ووعي القارئ السعودي، فالسوق المحلية الخاضعة لمعايير الرقابة الإعلامية ذات السقف المنخفض لم تعد تلائم حقيقة ما وصل له القارئ السعودي من تطلعات، فأصبحت هذه المواسم الثقافية هي المتنفس الوحيد للحصول على الكتب التي تلبّي سقف وتطلعات ذلك الوعي القرائي، وهذه مسألة في غاية الأهمية؛ حيث يفترض بمنظومة الرقابة الرسمية أن تواكب التغيير، لا أن تظل عند ذلك المستوى الذي تجاوزه القرّاء والمؤلفون في المملكة. ومثل القراءة هناك التأليف والنشر أيضاً، ولنا أن نتخيل عدد دور النشر السعودية في خارج المملكة، والتي أُطلق عليها من باب الطرافة: (دور النشر المهاجرة)، فكيف يمكن أن نتصور هجرة الناشر والمؤلف وكذلك القارئ، وكل ذلك في وقت واحد؟ وكيف سيكون مقدار التأثير الفظيع على إمكانيات القوة الثقافية الناعمة في هذه الحالة؟ *** المشكلة أن معايير فسح أو منع الكتاب غالباً لا تخضع لمبررات منطقية مقبولة، فالراحل القصيبي مثلاً كانت بعض مؤلفاته ممنوعة من الفسح في المملكة، ولكن بمجرد وفاته حصل الفسح الكامل فوراً لكل إصداراته؛ وربما كنوع من التكريم المتأخر له. السؤال في مثل هذه الحالة: أين ذهب مبرر المنع فوراً بعد أيام من رحيله؟ هناك الكثير من المعايير ليست فقط غير مفهومة، وإنما مؤسفة حقاً ولا يمكن لها المساهمة في خلق حراك ثقافي وفكري برغم وجود الطاقات الإبداعية التي لا تقل أبداً عن مثيلاتها من الطاقات في بلدان أخرى. *** هناك مستويان من المنع والفسح لابد من معرفتهما حتى تتضح الصورة: • مستوى المنع من الفسح في السوق المحلية، ولكن مع السماح بالتداول في معارض الكتب الدولية المقامة في المملكة. • والمستوى الثاني وهو أن يُمنع الكتاب حتى في معارض الكتب الدولية. وهذا المستوى الأخير لا نختلف كثيراً حول فكرة أن لكل بلد سياساته التي يجب احترامها فيما يتعلق بالمسموح والممنوع. مع ضرورة المراجعة الدورية لتلك السياسات، وتضييق المنع إلى حد انحصاره فيما يُشكل ضرراً واضحاً على استقرار الأمن والسلم والقيم. وهذه أشياء لا اختلاف حولها، إنما كل الحديث حول المستوى الأول وفكرة: كيف يُسمح بتداول بعض الكتب في مواسم معارض الكتب، ويمنع السماح بها (نفس الكتب) بقية أيام السنة؟ *** كذلك معايير فسح كتاب، أو عدم فسحه، فأنا أتساءل لماذا لا تخضع هي الأخرى لمستوى أعلى من خلال (الرقيب المثقف) الأكثر احترافيةً في التعامل مع الإنتاج الفكري، والأكثر وعياً في التعامل مع مفردات الفكر والإنتاج الفكري. إن الملاحظ اليوم هو (الرقيب الموظف) وليس (الرقيب المثقف). وهذا يعني استحالة أن يلجأ أي مؤلف سعودي إلى محاولة فسح مؤلفاته، وشيئاً فشيئاً، كما حصل منذ سنوات، فقد هاجر الجميع: الناشر والمؤلف وكذلك القارئ.