ابنة المسرحي إبراهيم القاضي تؤرخ لسيرة والدها ..
قصة هجرة العائلة النجدية إلى الهند وتجارتها ودورها في إثراء الثقافة الهندية.
أصدرت “دار بنغوين للنشر” بنيودلهي مؤخراً كتاباً باللغة الإنكليزية بعنوان “إبراهيم القاضي: احتجاز الوقت أسيراً” للمؤلفة المسرحية آمال آلانا التي هي مخرجة مسرحية، وأخرجت أكثر من 60 عملاً مسرحياً بما فيها: “بِيْجُومْ بَارَفِيْ”، “آَدَهَا أَدُهوْرَا”، “مَهَا بُوجْ”، “خَامُوشْ عَدَالَتْ جَارِيْ هَيْ!”، وغيرها. كما لها مسلسلات تلفزيونية عدة، منها “المُلّا نصر الدين” و”رَاجْ سِيْ سَوْرَاجْ”، وغيرهما، عملت بصفتها رئيساً للمدرسة المسرحية الوطنية بنيودلهي، ورئيساً لقسم المسرح الهندي في جامعة بنجاب وغيرها. وهي حالياً مدير لمعرض التراث الفني بنيودلهي. ونالت جوائز متعددة، منها: جائزة سانجيت ناتاك أكادمي، وجائزة جيريش غوش، وغيرهما. ويحتوي هذا الكتاب على 45 فصلاً، وهو أول سيرة كاملة وشاملة أُلِّفت بكل دقة وعناية عن مسيرة حياة إبراهيم القاضي الذي يُعدُّ من أبرز عباقرة المسرح الهندي في القرن الواحد والعشرين الذي غيّر مجرى المسرحية الهندية. ويتناول هذا الكتاب مساعي إبراهيم القاضي في تأسيس مدرسة المسرحية الوطنية عام1959 م لتكون على غرار أكاديمية الفنون الملكية في لندن، وتسلم منصب الإدارة لخمسة عشر عاماً بين 1962 م و1977م، ودوره في تدريب الفنانين المسرحيين المعروفين، مثل أوم شيفوري، أوم بوري، نصير الدين شاه، ومانوهار سينغ، وغيرهم، وتقديمه الأدب الهندي، والفنون البصرية من خلال أعماله المسرحية، وإسهامه في إنشاء المؤسسات المسرحية والأكاديمية في الهند وخارجها، مثل: مؤسسة القاضي للفنون في نيودلهي هدفاً للحفاظ على التقاليد الشفهوية والصور النادرة والتراثية التي يزيد عن عددها عن 90 ألفاً اقتناها إبراهيم القاضي خلال ثلاثين عاماً لخدمة الباحثين والمهتمين معترفاً بالأهمية التاريخيّة والثقافيّة للأجيال الناشئة. ولا شكّ في أنّ إبراهيم القاضي (1925-2020) كان شخصية عبقرية من نواحٍ متعددة، وأصبح اسم إبراهيم القاضي مرادافاً للمسرح الهندي الجادّ. وتشكلت شخصيته من مزيج ثقافي هندي تمليه عليه البيئة والثقافة العربية التي تعلّمها على يد معلمه العربي ووالده الذي وفّر له مكتبة كاملة من الكتب العربية النادرة في الهند، والتي كانت تحوي أمهات كتب الأدب العربي. ولم يتوقف انفتاحه الثقافي على هذا الحد، فنشأته في بيئة تعددية متسامحة كسرت حواجز الاختلاف الثقافي والعرقي والديني. وهو أستاذ ذو كاريزما ومحدثة ثورة في المسرح الهندي بإنتاجه وتدريسه ومنهجه، كما تطرق هذا الكتاب إلى ارتباط إبراهيم القاضي بمجموعة الفنانين التقدُّميين في مومباي في المرحلة البدائية لحياته المهنية. ولازم نفسه مع الرسام الشهير “مقبول فدا حسين”، والفنان الأصيل “إيف. إن. سوزا”، و”سيد حيدر رضا”، و”أكبر بدامسي”، و”طيب مِهْتَا” وغيرهم. وحاز إبراهيم القاضي على الجوائز المتميزة الهندية التي تكرم الحكومةُ الهنديةُ والمجتمعُ المدني الهنديُ الفنانين بها اعترافاً بخدماتهم الجليلة مثل بَادَامْ شِريْ، بَادَامْ بُوشَانْ، بَادَامْ فِيْبُوشَانْ (ثاني أعلى وسام هندي تقدمه الحكومة الهندية)، جائزة الأكاديمية من قبل أكاديمية الرقص والموسيقى، الدكتوراه الفخرية من قبل جامعة رابندراناث طاغور، كولكاتا، جائزة كاليداس من قبل حكومة مدهيابراديش، وجائزة الثروة الحية من قبل منتدى تايمز وتيلينت، مومباي، جائزة الانجازات على مدى الحياة من قبل حكومة دلهي في عام 2008م. وتم تكريم إبراهيم القاضي بمساهماته الجليلة في مجال المسرح والفنون الجميلة والثقافة في الساحتين الدولية والوطنية خلال خمسة عقود من الزمن. وأسس إبراهيم القاضي مؤسسات متعددة، وقام بتطويرها لتعزيز الفنون البصرية في الهند وخارجها. وعرض من خلال منصاتها إرثاً ثقافياً غنيّاً هندياً ما بين الأربعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويقدّم هذا الكتاب منظور المؤلفة الذاتي، كابنة القاضي، سرداً أنيقاً، وبُعداً إضافياً لشخصية فريدة بكل حساسية. ويكشف الكتاب عن مساعيه للتحقيق في تفكير عالمي شامل ذي الثقافات والتخصصات المتعددة في التعبيرات الفنيّة المتسمة بالتحوّل والتحرر، ومقاومته للأفكار التقليدية خلال صناعة الثقافة الوطنية الجديدة . ويلقي هذا الكتاب ضوءاً على لمحات فريدة عن شخصية إبراهيم القاضي منذ بداية حياته حتى وفاته. ووُلد إبراهيم القاضي في عائلة نجدية مهاجرة في عام 1925م. وتكتب المؤلفة إن والده كان سعودياً خالصاً من منطقة نجد التي هي جزء مركزي من المملكة العربية السعودية يتألف في معظمه من الهضبات الصخرية. وكان حمد القاضي رجلاً عصامياً تماماً، وعانى من المشقة الشديدة، والحرمان، والفقر، فعبر صحراء الربع الخالي في عام 1914م ليستقر أخيراً في بومباي لكي يعزز اقتصاده ووضعه المالي. وكان الهدوء والتقوى والصدق من صفاته النبيلة الرئيسة، وهي صفات نادرة بالنسبة للتجار في سوق التنافسية الشديدة. ويبدو أن ما ورثه إبراهيم، حتى في سنه الصغير من والده هو الشعور بالعزم والتصميم والصدق. كما تكتب المؤلفة إن جده “حمد بن علي القاضي” كان رجلاً عصامياً، يتيم الأبوين، قد غادر وطنه الأم، المملكة العربية السعودية، في سن الخامسة عشرة، من أجل أن يكسب شيئاً لنفسه. وولد عام 1898 في مدينة عنيزة، إحدى المدن المهمة في منطقة نجد التي تمتد من جبل شمر، حائل، في الشمال إلى وادي الدواسر في الجنوب، ومن رمال الدهناء في الشرق إلى الجانب الداخلي من جبل السروات في الغرب. ربما كانت هذه المنطقة (جزء من منطقة القصيم)، واحدة من أفقر المناطق ليس فقط في الجزيرة العربية، ولكن أيضًا في العالم أجمع حتى اكتشاف النفط ، وقد ذكرت المؤلفة عن سبب هجرة عائلتها من السعودية إلى الهند بهذه الكلمات: “إن الظروف الاقتصادية السيئة أجبرت على الهجرة والتي كانت سائدة في نجد، يمكن أن تعزى إلى الطقس الحار والجاف، الذي جعل الزراعة غير منتظمة وغير موثوقة، وكثيراً ما أدى إلى المجاعات؛ وثانياً، بسبب موقعها الداخلي، كانت نجد منطقة معزولة، وبالتالي، أصبحت التجارة البديل الأكثر ملاءمة لشعب الجزيرة العربية منذ العصور القديمة. وغادر حمد القاضي نجد في عام 1913، في سن الخامسة عشرة، وليس معه سوى بضع قطع من الملابس وجمل، ليبدأ رحلته الملحمية عبر الصحراء سيراً على الأقدام، وهي رحلة كانت محفوفة بالشكوك في كل منعطف. وسرعان ما نفد ماله فاضطر لبيع الجمل. وقد وجده بعض البدو في إحدى القافلات ملقى في كومة من الغبار، نصف ميت، فقاموا بشراء وجبة طعام له. فاستجمع حمد ما يكفي من الشجاعة ليسأل عمّا إذا كانت خدماته يمكن أن تكون ذات فائدة. فهل يمكنه أن يعتني بإبلهم في الطريق مقابل وجبات الطعام؟ “وبعد أن سافر معهم حتى البصرة افترقا.” وعمل حمد في الزبير (البصرة، العراق) لفترة قصيرة من الوقت كأمين السجلات في شركة تجارية، وتعرّف على أعمال التجارة قبل الاتصال بآل بسام، أقاربه البعيدين من عنيزة، سلّمه خطاب التوصية الذي حمله معه من عمه في نجد، طالبًا مساعدة هذا الصبي إذا سمحت الظروف. وبعد بعض المحادثات، أكد تجار البصرة أنهم سيغادرون إلى كلكتا في غضون أسابيع قليلة، وعرضوا على حمد أن يكون رفيقًا لابنهم الصغير، ومع القليل من الاختيار، تولى حمد المهمة وأبحروا إلى الهند بالزوارق. وبعد أسبوع كامل، لاح أفق مدينة كلكتا له. وكان البسام والتجار الآخرون في الهند من إقليم القصيم يعرفون أنذاك بالتجار القصمان ( العقيلات ). وأسست عائلة البسام تجارتها في كلكتا التي كانت مركزاً للشاي في أوائل القرن العشرين، حيث كان نشاطها التجاري يشمل بشكل أساسي تصدير الشاي الهندي إلى دول الخليج من خلال التجار الأذكياء. وكانت عائلة آل البسام مسرورة بخبرة حمد. وسرعان ما اكتشفت قدرته على الكتابة بخط أنيق، وهي موهبة لم يكن من السهل اكتسابها في تلك الأيام. وبعد ترقيته إلى منصب كاتب في مكتبها في كلكتا، سارع حمد إلى تولي إدارة التجارة - كيفية الاحتفاظ بالسجلات المالية للمتجر، بالإضافة إلى تخزين المتجر والسلع. وعندما توفرت وظيفة شاغرة في مكتب شركة البسام في بومباي، أختير حمد لشغلها. وكان ذلك في عام 1914 عندما نزل حمد من قطار السكك الحديدية الهندي في بومباي. وسرعان ما وجد حمد في المدينة الكونية الصاخبة، حيث جاء العرب واليهود والفرس والأفغان والنيباليون والسنديون والصينيون والأوراسيون وغيرهم، للبحث عن ثرواتهم كتجار، وكانت اللغات الأصلية هي الماراثية والهندوستانية. وأصبحت اللغة الكوجراتية والكونكانية مشبعة بالكلمات العربية والفارسية والسندية والإنجليزية بالطبع، لتصبح لغة جديدة حيّة ونشطة وجزءًا من هذا العصر الآن. وكانت آنذاك في بومباي عائلات الفوزان وآل الشايع والبسام والنصار والسلطان والبهباني والحمدان والفضل وغيرها من أقدم وأعرق عائلات التجار العرب الذين استقروا في بومباي، وكانوا يصدرون التوابل والأرز والسكر والمنسوجات والشاي والمانجو، بينما كانوا يستوردون العطور والكمثرى والخيول والسجاد والذهب والعملة والتمور من العالم العربي. لقد كانت المنسوجات الهندية أكثر تنوعًا بكثير من السلع التي يتاجر بها العالم العربي. ولاحظ حمد بعناية كيف أدّى عملهم الشاق إلى ازدهار العديد من العرب، بل وحتى ثرائهم. وفي غضون عامين، شعر بالثقة الكافية، فأسس وكالة تجارية خاصة به”. وقد نشأ إبراهيم القاضي في مدينة بونا التي كانت آنذاك ملتقىً للأيدلوجيات والوجهات المتنوعة، ومحاطة بالمزيج من الثقافات المتعددة، حيث كان المسلمون والهندوس والبارسيون والمسيحيون واليهود يتعايشون مع بعضهم البعض، وأنشأ إبراهيم القاضي، بدعم من والده، مكتبة في غرفة صغيرة بمنزل العائلة، والتي تحمل علامة مكتوبة بخط اليد “Literati”، وذكرت المؤلفة ألانا عن تعامل إبراهيم القاضي مع العديد من أيقونات السينما الهندية والتاريخ الثقافي والهندي وبعض الشخصيات الأدبية الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين والقصص الكلاسيكية بطريقة فنية ومهنية. كما وثقت ألانا في هذا الكتاب من خلال تقديم المعلومات الدقيقة عن تطور المسرح الهندي وتنميته، من جذور شركات “ناتاك” التجارية إلى جمعية مسرح الشعب الهندي، ومسرح بريثفي راج. كما وثقت ألانا الأحداث التاريخية العديدة التي كانت بمثابة المعالم البارزة في النمو الفكري والعاطفي لإبراهيم القاضي. وعلى سبيل المثال، في عام 1942م، وسط حشد من الناس الذين كانوا يتظاهرون بالقرب من تقاطع “دار الأوبرا”، شعر كأنه شخص هندي لأول مرة، وبعد عودته إلى الهند، شارك في النضال الوطني ضد الاستعمار من أجل الحرية أيضًا. وكانت إيدلوجية إبراهيم القاضي متجذرًة ومتأصلة في نسيج التاريخ الهندي، هذا ما يتجلى في أعماله السينمائية والمسرحية. واستفادت المؤلفة في سرد مسيرة حياة إبراهيم القاضي من الوثائق والمقابلات التي هي بمثابة مصدر لبعض المعلومات. ولا يقدر إسهام إبراهيم القاضي في المسرح الهندي بثمن حيث وصف إبراهيم القاضي نفسه بأنه جسر سهّل اختلاط الحركات الغربية المتطورة مثل الحداثة والتغريب مع شهية الهند للميلودراما. علماً إن كثيراً من جوانب حياته غامضة جداً فيكشف هذا الكتاب الذي ألفته أمل ألانا القناع عن إبراهيم القاضي، وتأثيره في الثقافة الحديثة خلال وضع أسس مدرسة المسرحية الوطنية، ودور زوجته “روشان” في مسيرة حياته المهنية، وهي كانت جزءاً لا يتجزأ من رحلته كفنان وإنسان. فيسد هذا الكتاب فجوة تاريخية واسعة. كما يخبر هذا الكتاب أن إبراهيم القاضي كان مؤمناً بضرورة مساعدة الطلاب الشباب المحتاجين أثناء مراحل تعاليمهم، كما ساعده ليونارد إلميرست خلال إكمال مرحلة تعليمه في بريطانيا، حينما كان محتاجاً للرسوم والأموال عند إكمال دراسته في دارتينجتون هول في عام 1951م. وتقول المؤلفة “آلانا” عن تأليف هذا الكتاب: “عند كتابة السيرة، يلتزم الشخص بأن يكون مخلصًا وصادقًا قدر الإمكان حتى يكون العمل ذا مصداقية”، “والداي... كانا فنانين.... لقد آمنا بأن يعيشا حياة صادقة، ولم يلتزما بالضرورة بالمعايير والآداب المجتمعية. وكان هذا جزءًا من الطريقة التي أكدا بها على حريتهما، في العيش وفقًا لإحساسهما بالحقيقة. وهذا ما جعلهما أقوياء وشجعانًا ويستحقان الكتابة عنهما”. واستخدمت المؤلفة في هذا الكتاب الأعمال الفنية والملصقات والكتالوجات والرسومات والصور الفوتوغرافية لإبراز إسهام والدها. وخلال ذكر أهداف تأليف هذا الكتاب، ذكرت المؤلفة: “آمل أن تصل أفكاره إلى قطاع كبير من الناس، لأنها يمكن أن تزودنا برؤى قيمة نحو غرس نهج أكثر شمولاً، نهج يمكن أن يستوعب الاختلافات، ويساعدنا على الابتعاد عن النهج الضيق في التعامل مع الأمور في البحث عن التعايش”. هذا الكتاب سجل مهم لفهم المشهد الاجتماعي والسياسي الهندي الذي عاش فيه القاضي وإسهامه في الثقافة. ويقدم هذا الكتاب رؤى قيمة حول الديناميكيات التي شكلت المجتمع والثقافة الهندية. وصرحت المؤلفة أنها استمدت منه القواعد المسرحية بأكملها، والنظر إلى المسرح كجزء من الأشكال المتعددة من الفن وفكرة الرسوم من التقاليد العالمية والشمولية”. كما توضح المؤلفة جزءاً أخيراً من الاقتباس المذكور أعلاه - فهي تكشف أيضاً بحماس طبقات الهوية الثقافية والقومية والفنية للقاضي، بدءًا من جذوره في بومباي باعتباره ابنًا للعائلة المهاجرة من المملكة العربية السعودية. والحقيقة أن القاضي لم يكن هندياً أصلاً إلا أن شعوره بالانتماء إلى الهند تكثف على مر السنين. وغادر والداه إلى كراتشي بعد تقسيم الهند، لكنه بقي في الهند، وكان بين أصدقاء إبراهيم القاضي من المسيحيين الكاثلوكيين والهندوس والمسلمين، واكتسب حياة مركبة من الديانات والثقافة المتعددة دون التدخل في أي ديانة أو ثقافة أحد. وإن دراسة هذه الأعمال التي قام بها والدي منذ بداية حياته المهنية أي 23 عاماً عندما كان عمره بالكاد 23 عامًا أتاحت لي فرصة ثمينة لاكتساب رؤية قيّمة حول الاتجاه الذي كان يسعى إليه من حيث الموضوع والأسلوب كمخرج مسرحي وفنان بصري. وعلماً أن نجله الوحيد فيصل القاضي أيضاً ألف كتاباً عن سيرة والده، وهو أيضاً جدير بالقراءة.