بشار بن برد «يدرّس أنساب أهل الفلا» في أوروبا.
في أولى المحاضرات لي في قسم الدراسات العربية بجامعة برلين الحرة في مقرر (الشعر العربي الكلاسيكي) تناولت المحاضِرة القصيدة الشعوبية لبشار بن برد (هل مِن رسولٍ مخبرٍ / عني جميعَ العربِ). والغريب هنا ليس احتفاء المحاضِرة بمضمون القصيدة الاحتقاري لجنس العرب وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة جلوسهم وأكلهم وشربهم بل وحتى نباتاتهم، لكن مكمن الغرابة هو القفز على اللبنة الأساسية للشعر العربي في الجزيرة العربية ممثلة بشعر ما قبل الإسلام أو ما بعده، واتخاذ الشاعر الفارسي بشار بن برد نقطة انطلاق لما تسميه بالشعر العربي الكلاسيكي. في تلك الأثناء لم تُثِر هذه الحادثة اهتمامي أو ريبتي، وظننتها عفوية. لكن، ومع مرور السنوات أصبح جليا لي أن التغييب المتعمد لتراث إنسان الجزيرة العربية وإسهاماته الثقافية هو نمط وسياسة عامة تُتبع بصرامة أحيانا. لا يقتصر ذلك على الممارسات الفردية لبعض أعضاء هيئة التدريس، أو حتى على سياسات جامعة بعينها، بل يمتد إلى أعرق المؤسسات الأكاديمية في أوروبا، حيث أعدّت جامعة كامبردج كتابا موسوعيا بعنوان الأدب العربي الحديث (Modern Arabic Literature)، تناوب على كتابة فصوله ألمع الباحثين في مختلف المجالات الأدبية. في الكتاب سرد لتفاصيل عميقة عن مختلف الأعمال الأدبية شعرا ونثرا، لكن الباحثين لا يتطرقون لأي عمل أو تجربة من السعودية، بل اكتفى أحدهم بمعلومة مغلوطة مفادها أن الكلاسيكية الحديثة لم تظهر في الجزيرة العربية قبل الأربعينات والخمسينات الميلادية حيث تجاوزتها بقية الأقطار في المنطقة لحركات شعرية أكثر ملاءمة لذلك الزمن. رغم أن المعرفة السطحية تكفي الباحث ليعلم أن الكلاسيكية الحديثة نشأت في السعودية في أواخر القرن التاسع عشر. القضية هنا ليست مجرد حجب متعمد لتراثك الأدبي ونتاجك المعرفي تستطيع علاجه بالتفنيد أو بتسليط الضوء على إسهامك، بل هو خلق لسردية تاريخية وثقافية للمنطقة تكون الجزيرة العربية فيها دخيلا متطفلا لا حاجة لهز هذه السردية الثقافية هي البنية التحتية والتبرير الأخلاقي للعمل السياسي الذي يأتي حتما بعد ذلك، فالنتيجة النهائية لجهود محوك من التاريخ هي محوك من خطط وتحالفات المستقبل. والمتابع للأحداث السياسية خلال السنوات الماضية يعلم يقينا عن وجود مشروع له أنصاره في الغرب غايته عزل الجزيرة العربية عن محيطها بالكامل. ورغم سقوط المشروع في شكله السياسي، إلا أن شكله الثقافي لا يزال قائما وحاضرا بقوة. تمثل أقسام الدراسات الثقافية في الجامعات الغربية المطبخ الخلفي لمختلف الأفكار والمشاريع السياسية التي ترسم مستقبل العالم. تتسلل هذه الأفكار من الجامعات للإعلام ومن الإعلام للناس لتصبح رؤية شعبية، ومن ثم تجد طريقها للسياسيين. مع انفتاح العالم على بعضه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر سؤال ملحّ لدى الجيل الجديد من السعوديين حول تلك النظرة المغلوطة للمجتمع السعودي وواقع الحياة في السعودية لدى مختلف وسائل الإعلام الغربية، دون فهم للآلية التي تشكلت فيها هذه الأفكار المتطرفة وترسخت في الأوساط الغربية لتصبح عقائد من الصعب زعزعتها. والحقيقة أن الاستثمار بالجدل البيزنطي مع وسائل الإعلام الغربية مضيعة للوقت والجهد، لأن مختبر إعداد هذه الأفكار وصناعتها كان ولا يزال في ساحات الحوار الأكاديمي، والإعلام ليس إلا تمظهرا خارجيا لما يُطرح في الجامعات. تُبنى السردية في الجامعات بواسطة أقسام الدراسات الثقافية أو دراسات المناطق (قسم الدراسات العربية، قسم الدراسات الإيرانية، قسم الدراسات التركية، قسم الدراسات الإسلامية، قسم الدراسات اليهودية). أنت تجد في كل قسم من هذه الأقسام تمثيلا لمختلف التوجهات السياسية والفكرية -حتى لو كانت دينية متطرفة- بواسطة أساتذة أو طلاب ينتمون عرقيا وثقافيا لتلك المناطق، بالإضافة لأساتذة وطلاب غربيين لهم اهتمام بالمنطقة. وبسبب خلو الأقسام من أي تمثيل سعودي أو جزيري (نسبة للجزيرة العربية)، يُملأ هذا الفراغ بخيالات دول الإقليم عن الجزيرة العربية. في هذا السياق تعيش جامعاتنا حالة من الانفصال التام والعزلة المطلقة، ليس فقط عما يدور في الأوساط الأكاديمية العالمية، بل أيضا عن الحراك الاجتماعي الداخلي. تنكفئ رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث المدعومة في أقسام الدراسات الثقافية بجامعاتنا على ذاتها، وتنصب جهودها في مسائل علمية هامشية، دون أي إسهام يذكر في خلق سردية بديلة للتاريخ الثقافي للمنطقة، أو فتح قنوات للتواصل مع العالم. على عكس ما يحدث في عدد من الجامعات العربية وغير العربية التي تمثل قنوات لهذه الدول للتواصل مع العالم، وتساهم في نقل الحراك الداخلي للخارج عبر حوار أكاديمي بنّاء وبأقل التكاليف، بلا إعلانات مدفوعة، ودون الحاجة لإنشاء صحف ومجلات بلغات أخرى ذات صوت لا يصل لمكان. * لندن