“الفقر لم يخلقه الفقراء، كلنا نولد رجال أعمال، لكن البعض يحصلون على فرصة لإطلاق هذه القدرة، بينما يوجد آخرون ليسوا بنفس الحظ، أو لا يعرفون أنهم يمتلكون هذه القدرة أصلاً” - بروفسيور محمد يونس كيف يمكن لأفكار فرد واحد وجهوده المستمرة أن تحدث تغييرًا جذريًا في حياة الملايين؟، وكيف يمكن لجهوده وقوة إصراره وتفانيه في خدمة المجتمع أن تقدم حلولًا ملموسة لانتشال الفقراء من براثن فقرهم؟، لا شك أن قصة البروفيسور محمد يونس، المعروف بمصرفي الفقراء، تجيب عن هذه الأسئلة بأسلوب لا يمكن إلا أن يكون مصدر إلهام للكثيرين، هذا الرجل الذي تحدى الأنظمة التقليدية وتجاوز الحواجز الاجتماعية والاقتصادية، تمكّن بفضل أفكاره الرائدة تغيير مسار حياة الملايين من الفقراء، لتصبح قصته واحدة من أكثر القصص إلهامًا، ومع عودته لرئاسة الحكومة المؤقتة في بنغلاديش، يسطع اسمه مجددًا وتبرز رحلته إلى دائرة الضوء. بداية رحلة التغيير وُلِدَ محمد يونس في عام 1940م في مدينة شيتاغونغ ببنغلاديش، نشأ في أسرة متوسطة، وبعد تخرجه من جامعة دكا عام 1961م، درس الاقتصاد وحصل على منحة فولبرايت للدراسة في الولايات المتحدة عام 1965م، تبدأ قصته الملهمة في عام 1971م، عندما عاد من دراسته بأمريكا وانضم إلى قسم الاقتصاد بجامعة شيتاغونغ البنغالية كمدرس لمادة الاقتصاد، كان يونس يشعر بالضيق من تدريس نظريات اقتصادية مجردة بعيدة كل البعد عن الواقع، بينما يعاني الناس في بلاده من الجوع، فبدأ في زيارة القرى للتعرف على أوضاع الفقراء عن قرب وفهم احتياجاتهم الحقيقية، لاحظ وجود مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وسط المناطق التي يقطنها الفقراء، فعمد إلى تأسيس مشروع التنمية الريفية بالجامعة، والذي مكّن الطلاب من الحصول على شهادات أكاديمية إذا ساعدوا الفقراء المحليين، وركز هذا المشروع الرائد على تكنولوجيا الري وزراعة الأرز عالي الإنتاجية، ورغم نجاحه، شعر يونس بعدم كفايته لمساعدة الفقراء الذين لا يملكون أراضي زراعية. في عام 1976م، توجه يونس إلى بنك جاناتا، أحد أكبر البنوك الحكومية في بنغلاديش، واقترح على مسؤولي البنك منح قروض صغيرة وميسرة السداد للفقراء، رفض المسؤولون الفكرة بحجة أن الفقراء أميون ولن يتمكنوا من ملء الاستمارات اللازمة، ولا يملكون أي ضمانات، وبعد مفاوضات طويلة اضطر يونس إلى ضمان القروض بنفسه، وبلغت قيمتها الإجمالية 300 دولار، وافق البنك على تقديم القروض بشرط أن يعمل يونس كوسيط ويقدم الأوراق اللازمة لكل قرض، اجتمع يونس مع الفقراء موضحًا لهم أن هذه القروض هي فرصتهم الوحيدة للنجاة من الفقر، وحثهم على تجميع مدخراتهم لإقراض الآخرين، وبحلول عام 1998م تم ادخار 100 مليون دولار بهذه الطريقة، ووجد يونس أن إقراض النساء يخلق تغييرًا اجتماعيًا أسرع، نظرًا لأن النساء غالبًا ما يركزن على تحسين رفاهية أسرهن. بنك الفقراء رغم عدم خبرته في إدارة البنوك؛ أسس يونس بنك جرامين للفقراء، واعتمد أساليب جديدة لم تكن معروفة في النظام الاقتصادي ببنغلاديش، مثل منح قروض صغيرة تستمر لمدة عام واحد مع سداد يومي أو أسبوعي، بالرغم من التكهنات التي كانت تتنبأ بفشل التجربة، إلا أن البنك الذي يعمل بطريقة مغايرة لما كانت عليه البنوك التقليدية، سرعان ما تمكن من النمو بسرعة، وأصبح يملك اليوم أكثر من 2500 فرعًا، وأقرض مليارات الدولارات لملايين الفقراء بمعدل استرداد قدره 98%. في مقابلة سابقة معه، قال يونس إنه شعر بضرورة إنشاء بنك جرامين عندما التقى بامرأة فقيرة تنسج مقاعد الخيزران وكانت تكافح لسداد ديونها، قال يونس: “لم أستطع أن أفهم كيف يمكن أن تكون فقيرة للغاية وهي تصنع مثل هذه الأشياء الجميلة، ماذا لو تمكنت نساء مثلها، بدلاً من الاعتماد على المقرضين المحليين الذين يفرضون أسعار فائدة باهظة، من تلقي مساعدة مالية صغيرة وسدادها بشكل ميّسر؟، وهكذا وُلِدَ مفهوم الائتمان الصغير”، لقد أصبح بنك جرامين أو بنك الفقراء أحد أهم البرامج المناهضة للفقر في العالم، وتوسع نطاقه ليصل إلى بلدان أخرى مثل: ماليزيا والفلبين ونيبال والهند وفيتنام، لقد أظهر هذا النموذج المبتكر إمكانات التمويل الأصغر كأداة لتمكين الاقتصاد، وقدرته على تحويل حياة الملايين من الناس للأفضل. في خضم السياسة لم يشفع نجاح يونس له، ولم يحمه من الصراع السياسي، لا سيما عندما أعلن عن نيته تشكيل حزب سياسي جديد، واجه علاقة متقلبة مع رئيسة الوزراء الشيخة حسينة منذ توليها السلطة في 2008م، وبلغت التوترات ذروتها بالتحقيقات في أنشطته في 2011م، حيث راجعت السلطات في بنغلاديش عمليات بنك جرامين، مما أدى إلى إقالة يونس من منصبه كمدير إداري مؤسس بتهمة انتهاك لوائح التقاعد، كان هذا بمثابة بداية معركة قانونية مطولة، حيث واجه يونس لاحقًا عشرات القضايا التي يؤكد أنها ذات دوافع سياسية. ورغم أن يونس قد تخلى في نهاية المطاف عن طموحاته السياسية، إلا أن انتقاده للسياسيين بسبب جشعهم وفسادهم لم يرق للحكومة، وتصاعد الموقف في يناير 2024م عندما حُكِمَ عليه بالسجن 6 أشهر بتهمة انتهاك قوانين العمل، وقد أثارت مشاكله القانونية إدانة واسعة النطاق من قِبَل المدافعين عن حقوق الإنسان والمراقبين الدوليين، الذين يزعمون أن الاتهامات هي محاولة لإسكات أحد أبرز منتقدي حكومة الشيخة حسينة. يظل يونس، البالغ من العمر 83 عامًا، رمزًا للصمود في مواجهة الشدائد السياسية في بنغلاديش ومعارضًا بارزًا وشجاعًا ضد الحكومة والفساد، وبالرغم من نجاحاته فقد وصفته حسينة يومًا بأنه “مصاص دماء الفقراء”، كان هذا الوصف المهين كرد فعل لانتقادات يونس الصريحة لها، خاصةً وأنه كان يرى دائما أنها تقوّض إرث والدها الشيخ مجيب الرحمن؛ مؤسس بنغلاديش، ومع استقالة حسينة من رئاسة الحكومة وهروبها إلى الخارج بعد انتفاضة واسعة النطاق ضد حكمها مؤخرًا، وصف يونس استقالتها بأنها “يوم التحرير الثاني لبنغلاديش”. نوبل للسلام حصل يونس على جائزة نوبل للسلام في عام 2006م لريادته في استخدام الائتمان الصغير لمساعدة الفقراء وانتشالهم من براثن الفقر، وخاصة النساء الفقيرات، وقد أشادت لجنة جائزة نوبل للسلام بيونس وبنك جرامين “لجهودهما الرامية إلى خلق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من الأسفل”. على رأس السلطة دفعت الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة التي قادها الطلاب في بنغلاديش إلى اختيار محمد يونس لرئاسة الحكومة المؤقتة، سيعمل يونس كرئيس وزراء مؤقت حتى إجراء انتخابات جديدة، لكن من غير الواضح ما هو الدور الذي سيلعبه بعد أن حل الرئيس البرلمان لتمهيد الطريق للانتخابات، خاصةً مع استيلاء الجيش على الأوضاع في ظل الأزمة السياسية تعيشها البلاد. إن قصة البروفيسور محمد يونس ليست مجرد سردٍ لإنجازات شخصية، بل هي درس بليغ في قوة الإرادة، وعبقرية الفكرة، وعمق الالتزام نحو بناء مستقبل أفضل للجميع، لقد أثبت يونس أن الحلول العظيمة غالبًا ما تكون بسيطة ومباشرة، وأن الأثر الذي يمكن لجهود فرد واحد أن تحققه قد يتجاوز حدود الخيال.