في ذكرى ساعي البريد.
يقول الشاعر «نزار قبّاني» في قصيدته ساعي البريد: أنا عند شُبّاكي الذي يمتصّ أورِدة الغياب.. وشٌجيرة النارنج يابسة مُضيّعة الشباب.. وموزّع الأشواق يتركُ فرحةً في كلّ باب.. خُطواته في أرض شارعنا حديثٌ مُستطاب.. وحقيبة الآمال تعبقُ بالتحارير الرطاب.. يا أنت.. يا ساعي البريد ببابِنا، هل من خِطاب؟ ويُقهقه الرجلُ العجوزُ ويختفي بين الشِعاب.. أين الحقيبة؟ أين عُنواني؟ سرابٌ في سراب.. ولعلّ أكثر الروايات التي قامت على مِهنة ساعي البريد في تناولها، هي رواية «البوسطجي» للأستاذ «يحي حِقّي»، والتي تدور أحداثها حول ساعي البريد، الذي يُنقَل حديثاً من «القاهرة» إلى إحدى القرى الريفية، ليعمل ناظراً لمكتب البريد، وهناك يُعاني من جهل الأهالي وتزمّتهم ومُعاملتهم له بجفاء، فيُقرّر الانتقام من أهل القرية بالتلّصص على رسائلهم! إن كلمة «بوسطجي» تُطلَق على ساعي البريد، في مصر والشام.. والكلمة تتألّف من مقطعين: الأولى كلمة «بوست» Post وهي كلمة إنجليزية تعني البريد، والمقطع الثاني «جي»: وهُما حرفان يعنيان صاحب المهنة، أيُّ مهنة، وفقاً لقواعد اللّغة التركية، وقد أُدخلت في اللهجات العامية لبعض الأقطار العربية، خلال حُكم الدولة العثمانية لها. وكان أولّ طابع بريديّ صدر في «بريطانيا» عام 1840، وحمل صورة جانبية لوجه الملكة «فكتوريا»، وكان ثمنه حينها بنساً واحداً، لكنه عُرض في عام 2021 ضمن مزاد الكنوز في صالة «سوذبيز» بسعرٍ تقديري يصل إلى 8.25 مليون دولار، ورافق بعث واستقبال الرسائل البريدية هواية جمع الطوابع، التي انتشرت إلى وقت قريب في مُختلف أنحاء العالم. وقلّ أن اختزنتْ مُفردة من مُفردات المُعجم العربيّ في داخلها ذلك الفيض الهائل من الدلالات والمعاني؛ كما هو الحال مع الرسائل. إن الرسائل الخاصّة التي يتبادلها أصدقاءٌ حميمون باعدتْ بينهم الظروف والأماكن، أو يعمل كُتّاب وشُعراء ومُبدعون على تحويلها إلى مُكاشفات فكرية ومعرفية عميقة. فكلّ هؤلاء، كما سواهم من البشر، قد دأبوا منذ قرون طويلة على تبادل الرسائل، عبر وسائل مٌتفاوتة التطوّر؛ بدأتْ بالحمام الزاجل، وانتهتْ بالبريد الإلكتروني. وكلمة «بريد» تعني مسافة تُساوي أربعة فراسخ، أو 12 ميلاً، ولذا فإن عبارة «ساعي البريد» لها علاقة بالمسافة التي يسعى حامل الرسائل إلى قطعها دفعة واحدة على قدميه، أو على ظهر حصان أو جمل. وفي القرن الماضي، ارتبطت صورته بالدرّاجة الهوائية، وهو يتنقّل من بيت إلى آخر داخل بلدته الصغيرة قبل اختفائه أخيراً، وحلول ساعٍ من نوعٍ آخر يسوق درّاجة نارية، وهو إذ يقرع بابك فإنه لا يحمل لك رسالة من صديق بعيد، بل يحمل سلعة تجارية، أو وجبة طعام اشتريتها عبر الإنترنت! إن الحنين المتصاعد لساعي البريد الذي تفتقده مُدن العالم اليوم، والسُعاة الذين كانوا يتنقّلون على الدرّاجات الهوائية، ويخلقون أسطورة حول دورهم الذي كانوا يقومون به، وكانوا ملء السمع والبصر في مجتمعاتهم، هو الأمر الذي دفع «إيميلي تشابل»، وهي ساعية بريد إنجليزية سابقة، إلى استعادة الأمل حول تجاربها عبر الذاكرة، في كتابها «ماذا يدور حولنا» What Goes Around فتقول: «دائماً ما يتحدّث سٌعاة البريد عن العصور الذهبية لمهنتهم، إنها صناعة تدعو إلى حنين كبير». فمعظم أقران المؤلّفة السابقين يشعرون بالحزن بشأن فترة التسعينيات، وهي حُقبة كانت غنيّة لهذه المهنة، وكان من المفترض أن تكون زاخرة بالكثير جدّاً من متطلّبات العمل على نحو يصعب التعامل معه، قبل أن يتهاوى ذلك الصرح بشكل دراماتيكي في السنوات التالية. وتصف «تشابل» مثل غيرها من السُعاة هذه الوظيفة باعتبارها مدخلهم إلى مدينة مخفيّة: غُرف بريد تحت الأرض، وجُزء من مبنى خاص للتحميل، وأبواب خلفية، بينما هي تُمارس عملها متنقّلة على درّاجتها الهوائية، أشبه بمُراقبٍ لحياة المدينة من دون أن يعترضها أحد، بل إن من النادر ألّا يُبادرها الآخرون بالتحيّة. إن كلّ من يفتح حُزمة رسائله القديمة الآن، يُمكنه أن يتلمّس في صفحاتها رائحة الزمن؛ متى كُتبتْ، وفي أيّ ظروف حياتية، وماذا كان الموضوع المٌشترَك؟ إن الرسائل الرقمية حرّرتنا من الإحساس بطول الزمن، ولكنها أفقدتنا في الوقت نفسه ذلك الشغف الغريب الذي يجتاحنا، والمشاعر المختلطة بين الخوف والرجاء، حين نفتح صناديق البريد التي كانت تضمّ بين جنباتها كنوز الحياة الأغلى، وذهب القلوب المدوّن على الورق!