نواصل في هذا المقال طرح الحلول الابتكارية للسعودة التي تحقق الاستدامة، وذات العائد الاقتصادي والاجتماعي الأكبر والأسرع لتوطين الموارد البشرية السعودية بالذات في القطاعات الاقتصادية ذات الكثافة العمّالية المرتفعة، والتي لا تتطلب مهارات وجدارات عالية. في هذا السياق، نقف هنا لنناقش ضعف تواجد السعوديين في الصيدليات. ثمة حقيقة صادمة حين نرى في شوارعنا صيدلية دون وجود سعودي صيدلي يعمل بها، والحقيقة الصادمة الأخرى أن أكثر العاملين في الصيدليات من جنسية واحدة، وهذه لها محاذيرها ومخاطرها التي ربما لم ننتبه لها! السؤال: لماذا هذا العزوف عن العمل في الصيدليات، ولماذا لم ننجح في تعظيم الاستفادة الاقتصادية من قطاع الصيدليات؟ المراقب لوضعنا الحالي يجد أن الصيدليات وكأنها امبراطورية وتدار بواسطة جنسية واحدة، وإن وجد السعودي أو السعودية فتتلمس الرهبة أو عدم الاندماج في بيئة العمل بشغف، بينما تجد الوافد هو الذي يدير الصيدلية والمهيمن على العمل، والأدهى أن سلاسل الامداد للصيدليات أيضاً من نفس الجنسية. ما القصة؟ بشكل مختصر، المملكة لديها ما يقارب عدد 21 كلية صيدلة تابعة للجامعات السعودية، إضافة إلى 6 كليات خاصة تخرج ما يقار 3000 سعودي وسعودية، وقلة تواجد السعوديين في الصيدليات تم تناوله بعدة مقالات صحفية تطرقت لأسباب عدم توجدهم في الصيدليات السعودية. أين يذهب هؤلاء؟ إذا نظرنا إحصائياً في المملكة، فإن دولتنا الحبيبة فيها ما يقارب 9000 صيدلية خاصة، إضافة الى ما يزيد عن 7000 للقطاع العام. ويتضح أنه يتم الترخيص لـ 800 صيدلية سنويا، وطبقا لهذا سيكون لدينا بعد عشر سنوات 8000 صيدلية جديدة، ويتجاوز حجم هذا القطاع 28 مليار ريال، وتمتلك شركتان سعوديتان مدرجتان في سوق المال ما يزيد عن 2000 صيدلية من الـ9000 صيدلية، أي ما يزيد عن 22% من صيدليات المملكة. وهذه الصيدليات لا يقتصر نشاطها على الدواء، فلديها منتجات العناية ومستحضرات النظافة .. وغيرها بنسبة تصل إلى الـ95% من معروضات الصيدلية. وإن ذهبت إلى خارج المدن الرئيسية (الرياض وجدة والدمام) فنادراً ما تجد تلك الصيدليات بهذه الكثرة، فمعظم الصيدليات على النمط القديم الذي يحاول التماشي مع بيع المنتجات الثانوية غير الطبية. وإذا حصرنا متوسط دخل الصيدلية الواحدة لهذا النمط، فنجد ان دخلها الأدنى 600 ألف، والدخل المتوسط مليون ريال في السنة. وكما ذكرت، هناك مشكلة رئيسية أخرى في هذا المجال تصعب التوطين، ونقصد السيطرة على سلسلة الامداد. الأغرب أن معظم موزعي أدوية الجملة ومنتجات الصيدليات هم ايضاً من جنسية واحدة. المعروف أن لدى هذا المجال دهاليزه المخيفة التي تستغرب وجودها بالذات في آلية احتساب مميزات التسويق والمبيعات. على سبيل المثال، إن زاد حجم البيع في منتجات محددة ترتفع مكافأة الصيدلي، وهذا يعني حرص الصيدلي على تعظيم حجم مبيعات هذا المنتج. كما إن البيع بالآجل لتلك الصيدليات التي تدار بنفس الجنسية هي أساس العمل. كما إن دخل السعودي في احدى الشركتين الكبرى للصيدليات بالمملكة يتراوح بين 6600 الى 8000 ريال شهرياً، وبالحوافز يصل الدخل الى 10,000 ريال، والذي ليس ببعيد عن الصيدلي الوافد، وبحساب بسيط فإن الدخل السنوي للوافدين بتلك الصيدليات يتجاوز المليار ريال، وفي عشر سنوات سيتجاوز العشرة مليارات ريال. طبعا هنا لن تكون القيمة المضافة في الاقتصاد الوطني عالية من هذا الدخل، بعكس لو كان نفس الدخل للمواطن السعودي. ويختلف دخل الصيدلية بناءً على حجم الصيدلية. وفقاً لدراسة أبحاث السوق العربية عام 2023 فان متوسط ربح الصيدلية الواحدة 100 ألف ريال سنوياً، ويزيد إلى النصف مليون وأكثر اعتماداً على حجم الصيدلية، والأغرب أن المملكة منذ عام 2010 بذلت جهوداً متعدد لسعودة هذا القطاع. ولكن من الواضح أن بعثرة الجهود وعدم وجود برنامج زمني محدد ناتج من خطة استراتيجية لسعودة هذا القطاع تعتمد المؤشرات والمعطيات الإحصائية وتأخذ بالعدد، والكيف، والتوزيع الجغرافي، والتنبؤ بما يجب، وأخيراً وضع خطة التنفيذ للسعودة. إن عمل كل المواطنين كملاك للصيدليات ضمن برنامج ريادة الأعمال منحى خاطئ، وفي نفس الوقت عمل نفس المواطن كموظف أجير بنفس أجر الوافد الأجنبي ايضاً منحى خاطئ. هنا نحتاج وقفة وإعداد دراسة استشرافية لهذا القطاع من خبرائه، ومن خبراء إعادة الهيكلة لنعرف كيفية توطينه، وليس فقط بقرارات سعودة وحملات يتلاشى أثرها سريعا. وربما يحتاج هذا المسار تصميم برامج تأهيل وتدريب لتخريج صيادلة يتخصصون في قطاع التسويق. والمسار الأسرع قد يكون عبر دبلومات مدتها عامين. الآن أغلب الصيادلة العاملين لدينا من غير السعوديين لا يتعدى تأهيلهم الدبلومات. * مختص في شؤون التدريب والتنمية المستدامة للمواطن