كما تموت النجوم، بينما يظل نورها مشعا لمئات السنين. ثمة من يولدون ليكونوا نجوما مضيئة في سماء الإنسانية، ثم يخلدون في صفحات تاريخها ضوءا لا يخبو. يرحلون ويتركون توقيعاتهم على صفحات الحياة شاهدة على انجازاتهم، واجتهاداتهم، وتضحياتهم في سبيل ما اختاروا من أهداف ارتأت بصيرتهم أنها تجعل لحياتهم قيمة ومعنى. هكذا كان حضور الشيخ الرحالة والأديب والمؤلف، الداعية الشيخ محمد بن ناصر العبودي، واسمه الكامل: محمد بن ناصر بن عبد الرحمن بن عبد الكريم بن عبد الله بن عبود بن سالم آل سالم. الذي شيعه أهله وأحبابه في هذه الأيام المباركة، حيث توفي في الثاني من شهر ذي الحجة 1443هـ، عن 95 عاما، في العاصمة السعودية، الرياض، يوم الجمعة، وصلي عليه يوم السبت في مسجد البابطين، وشيعه عدد غفير من أهله ومحبيه وتلاميذه، إلى حيث ضمه الثرى في مثواه الأخير، مآل الأولين والآخرين. وبرحيله نضب نبع معرفي غزير، و رفع علم كثير، و صمت صوت جليل، و ارتقت روح طيبة ظلت تطلب العلم على اختلاف مناهله، وتنشره بدورها، وتدعو إلى سبيل ربها من خلاله.. عاش العبودي حياة حافلة بالتنقل والرحلات وطلب العلم، وتدريسه، كتب خلالها قرابة المائتي كتاب، وسافر لأكثر من مائة وستين دولة مستصحبا قلمه، ومدونا لرحلاته تدوينا وافبا كافيا ليكون دليلا مضيئا لكل من يريد أن يتعرف إلى بلد من البلدان قبل زيارته. نشأ الشيخ محمد ناصر العبودي في بيت علم ومعرفة، حيث ولد في مدينة بريدة حاضرة منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية، عام 1926م. وتلقى تعليمه الأولي فيها على يد عدد من العلماء والمشايخ، ذلك أنه لم يدخل المدارس النظامية لأنها لم تكن متوفرة ببريدة حينها، بل تعلم بنظام الكتاتيب الذي كان شائعا. و تلقى تعليمه في كتاب الشيخ صالح محمد الصقعبي، ثم انتقل للتعلم في حلقات العلماء والمشايخ بمدينة بريدة، وأظهر نبوغا مبكرا أهله ليعين، بعد أن أنهى دراسته الابتدائية، قيماً لمكتبة جامع بريدة بترشيح من الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد قاضي بريدة وأحد مشايخه، وقد أفاده العمل في المكتبة في إثراء مخزونه المعرفي والثقافي، ومن خلال عمله في المكتبة نهل من الكتب الموجودة في المكتبة، ليتدرج في وظائف التربية والتعليم، فبدأ مدرسا للعلوم الدينية في المدرسة الأولى ببريدة وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، ثم مديراً لمدرسة المنصورية ببريدة، ثم مديراً للمعهد العلمي في بريدة عام 1371هـ. وتدرج منها إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لثلاثة عشر عامًا، حيث عين أمينا عاما للجامعة ثم مديرا لها. ثم تولى منصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي. وقد أتاح له عمله في الرابطة وقبلها في الجامعة الإسلامية بالمدينة كأمين عام لها زيارة عدد كبير من الدول، أثرى خلالها المكتبة العربية بعدد كبير من مؤلفات أدب الرحلات في أرقى صوره الاحترافية، حيث دون رحلاته في كتب تعد مدرسة يتتلمذ على مناهجها الرحالة من بعده. كما أعد وقدم عددا من البرامج الإذاعية والتلفزيونية كان من أبرزها البرنامج الإذاعي الشهير: “المسلمون في العالم؛ مشاهد ورحلات”. وقد منح العبودي ميدالية الاستحقاق في الأدب عام 1394 هـ، 1974م. كما نال في مسيرته العلمية والمعرفية عددا كبيرا من الجوائز، كان أهمها كما جاء على لسان الراحل “شخصية العام” من وزارة الثقافة السعودية العام الماضي، حيث حصل الشيخ الرحالة الأدب محمد العبودي على شخصية العام الثقافية، وهي الجائزة الكبرى التي تكرم من خلالها الوزارة رواد الثقافة في البلاد، وذلك اعترافا وتقديرا لعطاء معرفي وثقافي امتد لسبعين عاماً. ذلك أنها احتفاء بلده الحبيب به، وتكريمهم له في حياته، في خطوة جديرة بالثناء والتقدير. وقد عاقه تقدمه بالسن من الحضور لاستلام الجائزة، فحضر ابنه نيابة عنه. رحلاته: رغم قوة ذاكرة الشيخ العبودي التي كان يتمتع بها حتى بعد تجاوزه التسعين من عمره، والتي ذكر الشيخ في أحد لقاءاته سر توقدها من وجهة نظره فقال: “اجتناب السهر والحرص على تقييد كل ما يمرّ بي في النهار أثناء أسفاري”. و التي روى عنها المقربون منه، إلا أنه لم يعول عليها كثيرا في رحلاته، فقد ذكر في كثير من مقابلاته التلفزيونية أنه كان يدون بشكل يومي ومستمر تفاصيل رحلاته ومشاهداته أثناء رحلاته الكثيرة الغنية بالتنوع والاستكشافات. كانت إفريقيا أولى وجهاته عام 1965، حيث زار ثلاثة عشر دولة إفريقية في ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما، أثمرت جولته فيها كتابه الأول في أدب الرحلات بعنوان: “في أفريقيا الخضراء” عام 1966م. دون في كتابه أبرز المعالم والشخصيات الإسلامية والمسؤولين الذين عاصرهم، وما لفت نظره أو عايشه خلال رحلته، وكان وصفه مفصلا وافيا يهتم بالتفاصيل. وكانت هذه الرحلة بداية لسلسلة رحلات طاف بها أغلب دول العالم فيما عدا دولتين كما ورد في سيرته من بينهما كوريا الشمالية. وكان الشيخ يدون يومياته في قالب سردي حكائي جميل يشد القراء بسلاسته ويحرص فيه على تدوين كل ما يخص التراث الإسلامي والشخصيات المؤثرة، ولا يخلو سرده أيضا من المعلومات الإضافية عن الدول وتاريخها بأسلوب مشوق يربط بين الماضي والحاضر ويقارن بينهما. وقد أروت كتب العبودي ظمأ القارئ العربي للمعرفة بخصوص هذه الدول، وشكلت قدوة للرحالة الشباب لاتباع مسلك العبودي ومحاكاة أسلوبه في التدوين، والاستفادة من نهجه فيما يجب الاهتمام به وتدوينه عن الدول التي يزورها. كما حفزت المهتمين من الرحالة الشباب على محاكاة أسلوبه في الرحلات والتدوين والاستفادة من طرقه المتعددة في تدوين وسرد ما يرى ضرورة إبرازه في الدول التي يزورها. أيضا من أهم مؤلفات الشيخ كتابه عن زيارته لألبانيا التي زارها بعد سقوط الشيوعية 1990، حيث شكل كتابه وثيقةً مهمةً عن أحوال المسلمين فيها ومعاناتهم في عدم معرفتهم بدينهم. كما دون الشيخ زيارته ومشاهداته في الصين في كتاب بعنوان: “داخل أسوار الصين” 1992م، شرح فيه تاريخ وجغرافيا الصين وأحوال المسلمين فيها وتاريخهم وحاضرهم. وتجاوزت مؤلفاته في أدب الرحلات المائة وستين كتابا، أبرز عناوينها: أيام في فيتنام، مع المسلمين البولنديين، بلاد الداغستان، ذكريات يوغسلافيا، كنت في بلغاريا، وغيرها مما يضيق المجال عن الاستفاضة في سرده. ولم تتوقف اهتمامات الشيخ العبودي الكتابية على أدب الرحلات، بل تعدته لتشمل عددا كبيرا من الاتجاهات الفكرية والمعرفية التي شملت اللغة العربية ولهجاتها، والتراجم والأنساب، والأمثال، وله عدة مؤلفات منها: “معجم بلاد القصيم” 1990، و” كلمات عربية لم تسجلها المعاجم” 2000، و” الكناية والمجاز في اللغة العامية” 2003. كما أرخ في مؤلف من 23 مجلد، لأُسر مدينته، بريدة. لم تكن رحلات العبودي لمجرد السفر والسياحة والاستمتاع بالسفر، كما لم تكن بغرض وصف جغرافيا البلدان أو معالمها وعادات أهلها وحسب، بل كان أهم أسباب رحلاته هو الدعوة الإسلامية، وخدمة الإسلام والأعمال الإنسانية والإغاثية التي تصب في مصلحة الإسلام والمسلمين. وكان الشيخ سباقا للخير، مستبسلا في خدمة المسلمين خاصة المستضعفين منهم، وساعيا في إصلاح أحوالهم، وذلك ببناء المساجد، والمدارس، وتنفيذ المشاريع الخيرية الإغاثية، وغيرها.. وذلك خلال عمله موفدًا من رابطة العالم الإسلامي، وسفيرًا حسنًا للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث نجح في بناء ربط أواصر التواصل بين المسلمين، ومثَّل نفسه وبلاد الحرمين خير تمثيل. ويطيب لي هنا ذكر بعض ما ورد في ترجمة أوردها مركز سلف للبحوث عن سيرة الشيخ الراحل، دونت بعض ثناءات أهل العلم عليه رحمه الله: قال الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله: إنّ فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي من المشايخ الذين أمضوا قدرًا من حياتهم في دراسة العلوم الإسلاميَّة وهو إلى جانب ذلك أديب فاضل حصل علی ميدالية للاستحقاق في الأدب. وإنَّ كتابه (نفحات من السَّكينة القرآنية)، واضحٌ لمن يقرؤه، وخاصّة من لم يكن لهم سابق ممارسة بقراءة كتب التفسير، ولا معرفة باصطلاحات المفسِّرين. نسأل الله تعالى أن يثيب المؤلِّف الشيخ محمد العبودي وأن ينفع بكتابه. كما أثنى عليه عميد الوزراء د. عبد العزيز الخويطر رحمه الله قائلا: الشيخ محمد العبودي علمٌ مضيءٌ عند المثقّفين، لما ساهم به من جهد ثقافي، ولما وضعه على السَّاحة الفكريّة من موائد ملأى بغذاء مفيد وشهي، وبما شارك من جهد لنقش اسم المملكة العربيّة السعوديّة على خارطة للإنجاز في الثّقافة والتّراث والجغرافيا، وجوانب من اللّغة العربيّة في مكتبتنا العربيَّة يصعب حصر الحديث عن هذا الأديب المجد الجاد في أسطر محدودة، أو صفحات معدودة، فكلّ جانب من جوانب إنجازه الفكريّ المتشعِّب يحتاج إلى وقفة طويلة متأنيّة، تكون حصيلتها كتابًا كاملًا. أما د. محمد الشويعر رحمه الله، فقال: كلمة مأثورة قالها أحد الشُّعراء: لا بأجدادي شرفت بل شرفوا بي تنطبق على الشيخ محمد العبودي: الأديب الرحّالة؛ ذلك أنّ كثيرًا من الناس، وخاصّة في الخارج يعرفون الشيخ العبودي بأنّه الرجل الداعية، الذي يجوب البلاد في رحلات علميّة متتابعة يعيد معها ذكری رحلات ابن بطوطة المغربي إلا أنَّه أوسع منه انتشارًا وأكثر عطاءً. وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالتغريدات التي تناقلت الخبر، من داخل وخارج السعودية، التي نعت الشيخ الراحل وذكرت مآثره في مشهد يطمئننا أن مجتمعاتنا ما زالت بخير، وما زالت تقدر العلم والعلماء، وتهتز لرحيلهم وفقدهم، وتقيم إرثهم المعرفي. حفي بالذكر أن للشيخ العبودي عدد كبير من المؤلفات التي لم تر النور بعد ولم تجد سبيلها نحو الطباعة، وحري بدور النشر الرسمية وغير الرسمية التسابق نحو نيل الفضل والأجر في حفظها وإصدارها ونشرها حفاظا على هذا الإرث الفكري والمعرفي العظيم.