“ دقاس “ بين حكمة اللغة وغرائبية اللون.
الفنان التشكيلي والفيلسوف المبدع حسين عمر دقاس، يعتبر أحد أهم أعمدة الفن التشكيلي في البلاد، اسم يختصر اللون والنور، يخلق عالماً موازياً من خيال، يختزل الحكايا ورائحة المكان والزمان والجمال والاحتمال، في لوحة صامتة إمتاعية، مليئة بصقيع الأسئلة واختصام الأجوبة.. إمام الحداثة التشكيلية وأيقونتها، يرسم برداء المعاني والتعالق الدلالي والتفاعل واستنتاج الدلالات الخفية. يستقصي ملامح الأشياء وبعيد تشكيل شتاتها. ملهمته في كل ذلك أم تلعثمت الحياة ذات مرة على فمها فتفرقت ، وترقبت خطاه متبعثرا متعثرا من أمام عتبات البيوت حتى طباشير الفصول، ربما، وربما من قرية تسكن غبطة الغمام، كأول من يعانق قبلات الصباح، وتباشير المطر، مفعمة بالسحر وآيات الجمال، وحكايا شهرزاد وخرافة السندباد، وتتماهى مع عزف هسيس الأرض. لتجعل من “دقاس” وريثا لهمس السنابل وتلألؤات النجوم، وتلبسه حالات التصوف ليكون خلاقا استثنائيا مدهشا... لا أبالغ ورب الجمال إذا اتفقنا مع رائدة نظرية التناص “جوليا كريستيفا” :(إن النص عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى . ) عليه فإن كل قراءة تفكيكية هي مرتبطة ولا شك بمرجعية الذات الثقافية الحاضرة أولا، ودون تغييب لمؤلفها ثانيا، كل ذلك يجعل مساحة القراءة تتسع، وكل قراءة تنتج قراءات (تماسية) يصبح معها العمل الفني أيا كان انتماؤه - قصيدة ، رواية، لوحة تشكيلية - مرتعا خصبا وتوليديا. وكلها تستقرئ الماورائي لدلالاته المتوارية. كان لا بد لي من هذه الفاتحة وأنا استقرئ لوحة الفنان حسين دقاس” تأويل “ وعلى طريقة “كريستيفا” أحاول إفشاء سر من أسرارها، فهي لوحة تشكيلية ابتكرت شكلا جديدا من الرمزية اللونية تتجلى في تعالقات نصية، وفق آليات “الاستعادة والترحيل” استوحاها من ثقافة تراثية عميقة، وعوالم وفضاءات قرائية حديثة. أبدع دقاس في “ تأويل “ كأسم للوحته التشكيلية فقد جعل لها نسبا ممتدا في الثقافة العربية وبالأخص “الآي القرآني “أولا ، وثانيا ،انفتاح الكثافة اللونية على اشراقات شعرية معاصرة . “ التأويل “ هو: (الحقيقة التي يؤول إليها الكلام) .. وتأويل “دقاس” هنا جاء مقدرا ومتناصا مع: (هذا تأويل رؤياي)، وهذه الأية القرآنية جاءت في سورة يوسف، تكشف لنا ما ورائيات هذه اللوحة الفنية ( وَمَا نَحنُ بِتَأوِيلِ الأَحلام بِعاِلمِينَ ) مع خلو الاسم من “ أل “ إيحاء بفضح أسرار المكان المثقل بالقصص المغلقة والخصوصية الركامية المتمنعة، ، فأخوة يوسف ظاهرين في هذه اللوحة وغيابات الجُبِّ ويباس السنابل وخشاش الأرض، التي بنوا فيها أعشاشهم وفرخوا واستطابوها حياة الديمومة، وأصبحت مرتعا للبقرات “العجاف”، ومعها تبخرالأمل وفُقِد الحلم في أن “يغاث الناس ويعصرون . “ هذا بالنسبة لدلالات العتبة الأولى . أما اللوحة “ تأويل” في شموليتها فقد جاءت كحكمة محراب مستترة ب “والله من وراء القصد” خالية من فراغات اللون معبأة بالأسود والأبيض والرمادي والأخضر الفاتح والأزرق الفاتح تتشابك هذه الألوان كلها لتستنطق الشخوص والأزمنة والأمكنة والواقع المُعتم واحتمال عوالم وافاق أخرى، يذيب الرسام ذاته في ذات المتلقي ويكسر بهذه الألوان سرمدية الزمن بالتدرج من استواء الطين حتى ضبابية الفضاء . وهو يستدعي من مخزون الطفولة حقبة زمنية يتفاعل معها ويعيد تشكيلها وبنائها بالريشة والألوان، ذلك الزمن البعيد الراسخ في الذاكرة، الممتلئ بالمشاعر المعقدة. فالأسم يشي بالغواية القرائية ،ويفتح باب التأويل لكشف شظايا الأوقات المعبأة بالتعب والهم والقلق، وشطب العقل والفكر، وفضح الغامض المبطن والتلاطمات الوجدانية، واغتيال الأفكار والمشاعر الإنسانية ، وتسلطات الرأي الواحد ، والصراعات المتوحشة على يباس الأرض. وجاءت ردة فعله إزاءها متلفظة بذات متمردة على السائد، لكنها مكبلة يائسة رمز لها باللون الأبيض السرمدي اللامتناهي من شرشف بياض الولادة حتى بياض الكفن ، وهذا البياض كما هو واضح غطى الأجزاء العلوية للوحة ،وهذه الذات ذاتها تأتي متدثرة بشبح الغياب والذي يظهر باللون الرمادي الطاغي ، ويلاحظ في اللوحة الرصد الخيالي والأسطوري لشظايا السواد والبياض في أجزاء متفرقة من اللوحة الدالان على ديمومة التخاصم والاقتتال. ويلاحظ في أسفل اللوحة حموضة وزرقة المياه الراكدة والتي يحيط بها اليباس واصفرار الأرض الدال على التصحر القيمي ، وهذا الرماد الذي يحيط بالمكان يتداخل تداخلا دقيقا في كل التفاصيل وهو رماد السنين التي تشتت بفعل الخيبات والانكسارات متمازجا مع بياض التيه السرمدي اللامتناهي الغارق في عتمة القهر. أما القراءة الكبرى الشمولية فهي تشكيل الوعي الجمالي والانهماك الغامر في جدلية الواقع واستقرائه على طريقة الشاعر محمد الثبيتي ـ رحمه الله ـ والذي يتماهى معه في استقراء أسرار الرمال واحتمالات مراتب السواد . جئتُ عرافاً لهذا الرملِ استقصي احتمالات السوادْ جئت ابتاع أساطيرَ ووقتاً ورمادْ ... خارجاً من بين أصلاب الشياطينِ وأحشاء الرمادْ. حيثُ تمتدُّ جذور الماءِ تنفضُّ إشتهاءات الترابْ يا غراباً ينبش النارَ.. يواري عورة الطينِ وأعراس الذبابْ .