«جماعة الرصيف» في عامها الثلاثين ..

ذاكرة المكان وأحلام التنوير.

في الحياة الاجتماعية المعاصرة، ينظر إلى المقهى باعتباره مكاناً ثالثاً يتردد عليه الإنسان بشكل متزايد، ويقع ضمن فضاءات الأماكن الوسيطة بين المنزل والعمل، حسب المصطلح الذي سكه عالم الاجتماع «راي أولدينيرج». هذا عن مفهوم المقهى بشكل عام، أما المقهى كفضاء ثقافي فقد كان طارئاً وحديثاً في منطقتنا الأحساء، حيث لم يصل المقهى في معناه إلى هذا المفهوم إلا في تسعينيات القرن الماضي عندما تشكلت جماعة أدبية تمارس اشتغالاتها الجادة ولقاءاتها الأدبية خارج نطاق الجماعات الأدبية والشعرية السائدة آنذاك؛ وفي فضاء ثالث بين المحافل الدينية التي تحتضن الأدب وتجعل الشعر جزء من رسالتها، أو بين المجالس الخاصة والديوانيات الاجتماعية التي تحتفل مجالسها بأحاديث الشعر والأدب. هذه الجماعة أطلق عليها فيما بعد مسمى «جماعة الرصيف»، تمييزاً لها وتصنيفاً باعتبارها «حداثية»؛ تتبنى الطرح الحديث للفكر والأدب، وهو ما يفرض علينا الكشف عن ارهاصات تلك المرحلة من خلال مشهدنا الأدبي الأحسائي آنذاك، فالبداية تأتي منساقة بما خلفته عصور ما قبل الحداثة المادية من تأثير على شكل الأدب وكذلك والأغراض الشعرية، وهي حالة تتشابه فيها منطقتنا مع باقي المناطق في مملكتنا الحبيبة. وبعد هذه المرحلة والتي يمكن أن نطلق عليها بالمرحلة الصفرية، مرت بالمنطقة موجات فكرية متتابعة اصطحبت معها منقولاتها ومقولاتها سواء من الكتب أم المجلات الوافدة من الأقطار العربية التي سبقتنا في إرهاصات الحداثة والعصرنة، لكن هذه الموجة الأولى لم يكن لها تأثير واضح على الشعر، بينما بدأت أشكال أخرى من الأدب كالرواية والقصة بالانتشار المحدود. ولعل من أهم أسباب عدم تأثر الشعر بالمدارس العربية الناشئة حينذاك - كشعراء المهجر - أو بدايات انتشار قصيدة التفعيلة، هو أن من يجيدون الشعر كانوا من طبقة تنتمي إلى طبقة رجال الدين أو القريبين منهم وهم بطبعهم محافظون، وأيضاً لا يطمحون في التجريب على أغراض أو أشكال شعرية أخرى ومختلفة عن النمط السائد الذي عرفوه. لذلك مرت الموجة الأولى من دون أي تطور يذكر على الشعر، ولتعقبها الموجة الثانية محمولة بزخم عميق من الإيدلوجية الدينية وتوافقت مع نمو مضطرد في نسبة التعليم مما سمح بتجاور المواهب الشعرية الحقيقية من الشباب، بالإضافة إلى من يجيدونه من رجال الدين، وكان الفضاء هو الاحتفالات الدينية أو المناسبات الاجتماعية. ولأن الشعر الحقيقي لا يستكين للحدود الضيقة من الأغراض الشعرية المحصورة بالديني، فقد نمت على الهوامش جماعات شعرية اختارت حينها أن تلتقي كنخب أدبية تحت عنوان الشعر الكبير، ومنها انفرزت جماعة يمكن أن نطلق عليها تحقيباً «بالموجة الثالثة» وهي جماعة الرصيف. فهذه الجماعة قد لا تكون الأولى بوجود جماعات حداثية أخرى كثلاثي شعراء قصيدة النثر: أحمد الملا وعبد الله السفر وإبراهيم الحسين، وكذلك جماعة جمعية الثقافة والفنون الأحسائية، لكنهم بالتأكيد كانوا من ضمن الرواد. أما «الرصيف» كمكان، فهو مقهى فريد بتصميمه الذي تم استنساخه من أحد المقاهي الشهيرة في عاصمة التنوير والحداثة الأوروبية باريس. وفي ملكيته لا يحوزه رجال أعمال من أهل المنطقة، بل مستثمر من خارجها أتى كي يمنح المنطقة فضاءاً مغايرا تلتقي فيه نخبها وتتسامر. والسر في تسميته بالرصيف، فهو يمتح من نفس ثقافة فكرته؛ حيث في المناطق الشعبية والقديمة يختفي الرصيف أو يكاد، وفي «الراقي» والحديث من الأحياء يستعيد حرمته ومساحته، وينشط معه منطق المدينة وثقافتها. ولأن هناك أماكن تصلح أن تكون «كاتدرائيات للأفكار»، كما هو وصف ريتشارد واتسون للفضاءات والأمكنة الصالحة دون غيرها للاشتغال الفكري، فقد كان المقهى إلى حد ما متوافقاً مع شروط واتسون من حيث أن الفضاءات المفتوحة مشتتة للتفكير ولا تمنح الخصوصية في حدها الأدنى، لذلك ترتفع الحواجز قليلاً لتفصل كل جماعة عن أخرى، ولا تحجب مجال الرؤية تماماً عن باقي أركان المقهى وعن مقصفه الذي هو الآخر أتى بتصميم حديث يتيح التواصل مع زائريه المتحلقين في مربعات ودوائر، ويشعرك أن النادل لا يحضر لك مشروباً معلباً أو أكلاً جاهزاً، بل يريك خطوات الإعداد وخفق العصير والطهي. ذلك هو وصف المكان، أما جماعته الأدبية، فهم نخبة راهنت على الحداثة باعتبارها تياراً ثقافياً يجب اكتشافه واستيعاب مقولاته ومحاورته من أجل تجسير الهوة بين الثقافات والانتقال إلى مرحلة جديدة من الفكر والأدب تجعل من هموم الإنسان المعاصر وآماله وتطلعاته ضمن أولوياتها والتعبير عنه إبداعياً بشكل مغاير. وإن كان لا بد للجماعة من رائد يقدح الفكرة الأولى، فقد كان الأستاذ الشاعر محمد الحرز هو عرابها الذي قاد رحلة النور تلك، وبه مثلت الجماعة أحد أهم البؤر التنويرية في المنطقة بتخليها عن نمطية المجالس التقليدية من جهة، وبمرونة التجديد وممارسة التجريب على الأشكال الشعرية والأدبية من جهة ثانية. لذا نجد أن وزارة الثقافة في هيئتها الجديدة - حينذاك – استقطبت ثلاثة من أعضاء الجماعة (محمد الحرز وجاسم الصحيح وجعفر عمران) وعينتهم في أول مجلس إدارة لنادي الأحساء الأدبي إيماناً بمواهبهم ومراهنة على مقدرتهم لبث الإشعاع الأدبي ونشره. ومن الجدير بالذكر، أن هذه الجماعة تضمنت العديد من الأسماء الشعرية والأدبية كعادل الرمل ومحمد بو ناقة وفريد الضيف وعبد الوهاب بوزيد وعلي النحوي وجاسم عساكر وعبد الوهاب الحمد، وغيرهم من الأسماء اللامعة. هذا في الموجز، والذي فرض علينا التجاوز على شرح المصطلحات الواردة في هذه المقالة؛ من قبيل التنوير والحداثة الأدبية، وكذلك جلب النماذج والاستشهادات بمنجزات الجماعة والتي هي من الشهرة بحيث أعفتنا من كل ذلك. وفي الأخير، لا يسعنا سوى استذكار تلك البدايات بحب واجلال لهذه الجماعة؛ لمساعيها الجادة في إيجاد حراك أدبي وفكري حقيقي ساهم في الدفع بمسيرة الثقافة نحو آفاق رحبة في منطقتنا الأحساء. فتجاور تلك الثلة الجميلة مع بعضها، هو ما يذكرنا بنص الشاعر محمد الحرز – عرابها – والذي نختم به: «أنا وجاري العزيز نتقاسمُ أعباءَ الصيف: هو يرمي ضجري في القمامةً كلّ صباح، وأنا أقوس ظهيرتَه كي يعبر).