أأليَلَ الركب الحجازيون أليلَ من نواشز في (الهدا) ونوى مسيلاً من خزامى أليَلَت أخواته بتميمتين من الندى وخضبنَ من مطرٍ كفيفْ وهطَلنَ يجرحن النوى فصحا وأعشبَ أمَّ رابيتَين من سدرٍ وكبّر للمها ما إنْ رآها بين مزدلفٍ تحاولهُ وخيفْ ومشى فأتبع ربوةً فتهيأت للصيد عقبان وشاط دمُ الصفيفْ ومشى فأتبع ربوةً فرأى جمادى خارجاً للصيد ثم رآه أخرى داخلاً ورآه في وحشٍ يحلُّ وفي أليفْ ومشى فأتبع ربوةً فقضى بنا سبعاً وسوّفَ ثم وافانا على تسع ونيفْ أولم تكن أرطى فنوقد أو غضا؟ فتفرقت أيدي ثقيفْ ثم اختلفنا أيّنا يَرِدُ (المشقّرَ) واختلفنا أيّنا يغشى القطيفْ (نص الشاعر محمد الماجد) الدُّخُولُ فِي اللَّيْلِ قبل الدخول في الليل فلنبدأ بسؤالٍ قديمٍ حديثٍ نستل منه نفسًا عميقًا يضمن امتلاء كل حويصلاتنا الهوائية بكمية كافية من الأكسجين لكي لا نغرق في متاهاتٍ و لُجّةٍ لا قرار لها أو لنفتحَ مقاعد إضافيةً لمن يحبون الخطاب المباشر في النص الإبداعي. قد يسأل سائل ماذا كان يقصد الشاعر في نصه ؟ عندما نصطدم بنصٍ «كثير الماء» على حد تعبير الجاحظ، عِنْدَئِذٍ تفيضُ آبارُ عطشِنا بالأسئلة، فتمتد أصابعها الطويلة -كغصون الأشجار- باحثةً عن منافذ صغيرة جدًّا تتسلل من خلالها لينابيع النص، لكننا للأسف لن نقبض على (الماء) ما دمنا نواصل الركض وراء (قصد الشاعر) فجواب هذا السؤال لن يكسر أو يتجاوز الأطر (الأخبارية و التفسيرية) التي لا تُشبع إلا مَحاضِرَ التحقيق المنتفخة بالأدلة و(الحقائق). أظن أن النص المبدع لا يحتاج أن ننفخه (بالحقائق) ليرقص على أصابعنا رقصة فاتنة لتصبح كأنَّها (عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ) إنما يحتاج منا محاورة حميمية تُقربُنا منه أكثر فأكثر لنستطيع قراءته قراءة ثقافية خلاقة. إن عملية ضرب النص بالنص تهب النصَّ حيوات عديدة و خلق جديد، وهذا مافعلهُ (الماجد) حينما أدخلنا تحت عباءةِ الليل في رحلتهِ الشاسعةِ الماتعة، دون أن نهبط خبتًا أو نصعد جبلًا، فشَاهدنا نهرَ البنفسجِ وهو ينسكبُ من أعالي «النواشزِ» في (الهدا) يفرشُ التضاريس الوعرةَ بالخزامى، ويرفع بطون تلك الوديان السحيقة بماء اللغة وعشب التجربة ، وكلما اقتربنا مما يُحاولُ قولَهُ يَصفعُ وجوهَنا برذاذٍ باردٍ كي لا تَأْخُذنا سِنَةٌ وَلَا نَوْم، (فالحقائقُ/الغزالاتُ) التي نظن بأنها تركض على سطح النص لا تنقع الغلة، ولا تشفي من الأوام أو بتعبير آخر لا تكشفُ عن شيءٍ بقدرِ ما تزيدُ من يلاحِقُها ويقتفي أثرها تيهًا و ضلالة، ولكي يزيدنا حيرةً فوق حيرةٍ اتخذ الليل جملًا يُصاحِبهُ في مسيره. لكن لماذا الليل ؟ هل أراد أن يُخفي تحت سنامهِ شيئًا ما ؟ أم أن الليل كان أكثر دفئًا و دهشةً من الصباح ؟ قد لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال بجوابٍ جامعٍ مانعٍ فليس من عادة الأدب و الفن الاحتفاظ بعُلب الأجوبة الجاهزة التي قد تنتهي صلاحيتها مباشرة بعد الاستخدام، لكن نستطيع القول بنحو موارب و مقارب أن (الماجد) كان يثقُ بالليل تمامًا كثقتِهِ بشيخهِ الأكبر (امرئ القيس) الذي كان هو أيضًا يعتمد على الليل كثيرًا مع أنه لم يكن على وفاق تامٍّ معه كما صرح بصوتٍ عالٍ عندما قال: «أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ» و مع عدم رضاهُ عن الليل، إلا أنه - أي الليل - كان دَّابَّتَهُ التي يطوي بها المسافات البعيدة فبفضلِ الليل استطاع أن يقطع تلك المسافة الطويلة التي تمتد من (أذرعات) - التي تقع في أطراف الشام- حتى أرض (يثرب) كما يكشف عن ذلك في أبياته: « تَنَوَّرتُها مِن أَذرُعاتٍ وَأَهلُها بِيَثرِبَ أَدنى دارَها نَظَرٌ عالِ» « نَظَرتُ إِلَيها وَالنُجومُ كَأَنَّها مَصابيحُ رُهبانٍ تَشُبُّ لِقَفّالِ» «سَمَوتُ إِلَيها بَعدَما نامَ أَهلُها سُموَّ حَبابِ الماءِ حالًا على حالِ» وأيضًا كان حارسه و أمين سره حينما تسلل لخدر عشيقتهِ أثناء الليل عندما قال: « تجاوَزْتُ أحْراسًا إليها ومَعْشَرًا عليّ حِراصًا لو يُسرّونَ مقتَلي» لم يكن (امرؤ القيس) وحده من عزز لتلك الثقة (فمحمد الثبيتي) كان أيضًا سندًا آخر زادَ من ثقة (الماجد) بالليل عندما تسائل عن كيفية مجيئ القصيدة من رحم الليل ذلك الرحم الذي يحبَلُ بالإبداع و القصائد حين ترحل عنه الشموس: « كيفَ تأتِي القَصِيدةُ ما بينَ ليلٍ كئيبٍ ويومٍ عبوسْ؟ وماذَا تقولُ القصيدةُ بعدَ غروبِ المُنَى واغتِرَابِ الشُّمُوسْ» الآن هو متأكدٌ من خياراته جيدًا، متأكدٌ أن القصيدة لن تأتي أبدًا ما بين صبحٍ جميلٍ ويومٍ بشوش، ولن تُولد في أجواءٍ وادعة وأليفة. الدخول في التجربة والخروج من عتمتها يَستَلزِمُ حذرًا وترقبًا فالرحلة مليئةٌ بالأيائلِ التي لا تتوقف عن القفز والركض ومليئةٌ أيضا بالوحوش المتربصة وحراس التقليدية الجامدة. إذن من سيضمن لنا ولادةً كاملةً للنصِّ المتفوقِ غير الليل، إن الليل سيُرينا الأشياء على حقيقتها أو لنقل سيُرينا ما يشبه (الحقيقة/الغزالة)، هو ما سيجعلنا نُطارد ظلالها التي تشبه ضآلتَنا وما يلمعُ في أذهانِنا، نص (الماجد) ليس نصًّا منغلقًا كما يتوّهم البعض إنما هو نصٌ منفتحٌ يتمتع بحساسية عالية تجاه المتلقي، وإن كل تلك الرموز الكثيفة والمغاليق المحاطة به لأجل حمايتهِ من ( المباشرة والتقريرية ) التي تسوق النص للموت الأكيد، ليس هناك ما يُقلقُ فكلُ تلك الرموز لها مفاتيحٌ ملقاةٌ فوق رمال النص، ولكي نحصل عليها نصطاد بها (الحقيقة/الغزالة) يجب علينا ضربَ النصِ بالنصِ لنستدعي ما جَفَلَ من ذاكرتنا ليعود أمامنا ماثلًا رأي العين. لهذا سنحاول إخراج تلك المفاتيح من تحت الرمال النصية لنتمكن من الاستمتاع بالرحلة أكثر ما يمكن. إصرار (الماجد) في إدخالنا معه تحت الليل وفي الليل كان ملفتًا ومدعاةً للتوقف عند هذا الإصرار لاستكشاف مجساته اللغوية والجمالية التي كانت محملة في الفعل « أَلْيَلَ» في عدة محاولات بارعة وذكية وأريد أن أشير أن تلك المحاولات كانت مشحونةٌ ومتحدةٌ في الفعل الذي وظفه الشاعر دفعة واحدة بموسيقاه ودلالته الجمالية أما إقتراح التقسيم هذا كان بهدف الإيضاح وليس لتفريق وفصل هذه المحاولات زمنيا عن بعضها البعض:- المحاولة الأولى: هي محاولة تنبيهية تمثلت في تكرار الفعل « أَلْيَلَ» ثلاث مرات – أي ثلاثة تنبيهات - عند إحداثيات متفرقة للتأكد أن المتلقي لن ينسى جواز سفره الليلي الذي لا يمكن بدونه ركوب الرحلة والذهاب في مغامرتها الماتعة، أول تنبيه أطلقه الشاعر في بداية النص «أليَلَ الركب الحجازيون» فقد عين النطاق المحتمل لانطلاق الركب من تلك الجغرافيا الممتدة المسماة (بالحجاز) ، وقد أشار لتلك المنطقة ضمنياً حينما أوضح أن المسافرين هم (حجازيون) وبالتالي سيكونون متشابهون ينتتمون لنفس الأرض ويعرفون تضاريسها وخرائطها جيدًا، ما جعل المتلقي يستدعي ويتقمص شخصية أخرى تُعينُهُ على الانسجام مع عادات وثقافة من سيرافقهم في سفره لينجو من مستنقع الغربة والوحشة أثناء الرحلة، وهذه التهيئة النفسية بلا شك لزيادة الاستمتاع والمتعة. أما التنبيه الثاني «أليلَ من نواشز في (الهدا)» فكانت إحداثياته أكثر دقة ما جعل المتلقي في هذه المرة حساساً متحفزا لالتقاط كل التفاصيل المقترحة من الطبيعة بعدسةٍ أعلى شرفةً في الليل ليحمل متاعه الجمالي معه كزادٍ يعينه في إكمال رحلته. أما التنبيه الأخير «أليَلَت أخواته بتميمتين من الندى» فقد كان مختلفًا جدًّا فإحداثيات هذا المكان ليست واضحة تمامًا لكننا يمكننا التخمين أنها عند أول عتبة من عتبات السماء - تلك الحدود الفاصلة بين الموجودات الأرضية التي نألفها والوجودات السماوية التي نطمع بمعاشرتها وصحبتها – هنا بالتحديد سنحتاج لغة جديدة تشبه (لغة الطير) فالتحدث مع الغيمات وهي جالسة في بهاءٍ على الأرائك في «أعالي النواشز» أمرٌ مربكٌ جدًّا ويتطلب فصاحةً عاليةً تُتيحُ للإنسان مقايضة بياض الجسد السماوي بسحر اللغة الأرضية. المحاولة الثانية: هي محاولة تفهيمية فمما لا شك فيه أنّ أصل بنية الكلمة في اللغة العربية من الثلاثي؛ فهو السهل المتداول والكثير المتناول والخفيف المستساغ، يقول «ابنُ جني» العالم النحوي: «ذوات الأربعة مستثقلة غير متمكنة تمكن الثلاثي»، إن الفعل «أَلْيَلَ» من الأفعال الرباعية الثقيلة فلماذا أقحم هذا الفعل من البداية وكيف خدم النص؟ إن موسيقى الفعل كانت لها دلالة مستقرة في ثقل الفعل الرباعي الذي ساهم في زيادة كتلة الليل كمفردة و عمق وفَضائه كمعنى ولنجرب الضرب على نوتات الفعل الموسيقية لنتحسس دلالة «أَلْيَلَ» فعند البدء بالضرب على أول نوتة سنشعر كيف نثب مع أول (ألفٍ) ثم نقف بسكون على (اللام) فنثب مرةً أخرى مع (الياء) حتى نقف وقوفاً واثقًا كنقطةٍ في آخر السطر على آخر ( لامٍ ) تلك الحيوية والاستقلال في الحركة أعطى للفعل «أَلْيَلَ» موسيقاه الخاصة وثقله الدلالي. ولذلك لم يكن (الماجد) مستعجلًا في البدء بالرحلة بل كان صبورًا متدرجا ينتظر من المتلقي استيعاب هذا الدخول الليلي. المحاولة الأخيرة:- هي محاولة حميمية لطيفة بها عرقٌ من البلاغة يقطر جمالاً، (الماجد) هذه المرة جعل الليل يتسرب إلى المتلقي ولم يكلف المتلقي بعمل شاق كما أشرنا في كلتا المحاولتين السابقتين اللتين دفعتا المتلقي لمحاولة التنبه والتفهم، إن الليل بدفئه سيقوم هذه المرة بمهمة استيعاب واحْتضان المتلقي بحنانً ودِّفْءٍ لِيُدخِلَهُ فيهِ بسهولة وأريحية لكن كيف تمَّ ذلك ؟ إن استخدام الفعل « أَلْيَلَ» حَرَّضَ المتلقي للالتصاق بالليل التصاقا حميمياً وطيداً حينما لم يترك أي فراغ علائقي بين الكلمات إن صح التعبير في عملية الالتصاق كالتصاق الليل بالفعل « أَلْيَلَ» ذلك جعلنا ندرك أن (الماجد) كان يريد من المتلقي الدخول معه مباشرة في النص لكن بكله لا بجزئه وبقلبه لا بعقله. * كاتب سعودي