رجال ألمع!
(1) أخيرا، وبعد لقاءات امتدت عبر أثير الفكر والأدب كانت عن بُعد، التقيت الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي كفاحا بلا ترجمان، الباحث الأديب الذي كانت تربطني به علاقة روحية من طريق الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، فقد كنت مولعا بأدب الطنطاوي، وامتد هذا الولع إلى اهتمامي بكل من يقرأ له؛ فعرفت أو تعرّفت على قلم الأستاذ إبراهيم الألمعي من خلال اهتمامه بأدب الطنطاوي، وله فيه مؤلفات عدة، منها (روائع الطنطاوي) و(الطنطاوي والكتب: نقدات ومراجعات) وغيرها. كنت أقرأ كل ما يكتبه إبراهيم في الصحافة تقديرا لهذا المشترك بيننا، حتى وهو يكتب في شؤون ثقافية أخرى؛ وقد امتدت حفاوتي به إلى أن التقيته في فضاء شبكة التواصل؛ فازددت منه قربا، وقبل أيام التقينا في مهرجان الكتّاب والقراء في فضاء الواقع؛ فكان لقاؤنا توثيقا جديدا لهذه العلاقة الأدبية التي شرفت بها منذ زمن، لكنها جاءت هذه المرة انسجاما مع موضوع الندوة التي شاركت فيها رفقة الناقد والأستاذ الأنيق فكرا وأدبا الدكتور معجب العدواني، وهو الذي أشاركه للمرة الثانية في فضاء نقد السرديات، كانت الأولى في جدة في ملتقى النقد والسرديات الذي أقامه مركز أدب. وقد شاركنا في الندوة الأستاذ الروائي حسن عامر الألمعي،والدكتور أحمد آل مريع الذي أدار الندوة باقتدار. (2) يمتد الحديث إلى الدكتور أحمد آل مريع، وهو من أبرز المهتمين بأدب علي الطنطاوي، وكانت أطروحته في الدكتوراه عن أدب الطنطاوي، ونشرت في كتاب بعنوان (صناعة الفقه.. كان يوم كنت)،وهو من أفضل ما كتب من الدراسات الأكاديمية عن أدب الشيخ، رحمه الله. أذكر أني قرأت هذا الكتاب بداية صدوره، كما قرأت كتيبا أظنه مستلا من الرسالة الأكاديمية نفسها أصدرته المجلة العربية ضمن سلسلة الكتيّبات التي تصدرها شهريا، وكان بعنوان الأدب الساخر عند علي الطنطاوي. ما يميز الدكتور أحمد آل مريع روحه التشاركية والتلقائية في إدارة الحديث، سواء كانت في ندوة أو في جلسة ودية في حضرة الأصدقاء، وقد ظفرنا منه بهذه الروح ليلة الندوة، وامتد ذلك من المهرجان إلى عقبة ضلع على كتف الجبل، إلى أن قفلنا راجعين إلى الفندق. (3) من د. أحمد آل مريّع إلى الصديق الأستاذ علي فايع الذي التقيته لأوّل مرة خارج فضاء التواصل الافتراضي؛ فكان لقاؤنا حميما بدا لي فيه علي أكثر قربا بروحه وحديثه وتلقائيته، مع أنه في مواقع التواصل ينزع إلى الجدية أكثر، وإلى شيء من المشاكسات التي تحرّك المياه الراكدة. من أبرز ما يميز الأستاذ علي فايع حيويته ومعرفته الواسعة بالوسط الثقافي، وقد ظهر لي اهتمامه بهذا الوسط، مع سيرة وحراك نشط في هذا السياق، من خلال كتابه (فتنة الثقافة) الذي رصد فيه تجربته الصحفية وعلاقته بالشأن الثقافي؛ وهي علاقة حب تقنعك حين تقرأ تجربته أن مشهد الثقافة في حاجة إلى من ينهض بأعباء لا ينهض بها غير أفراد وهبوا فضيلة هذا الحب. يبدو علي مشاكسا ولديه روح لا تحب الركود؛ وهذه من أبرز صفاته التي ساعدته على أن يحتمل أعباء الصحافة الثقافية وفتنتها. (4) كانت مصادفة لطيفة مع الروائي حسن عامر الألمعي، وهو رابع الألمعيين في هذه المقالة الألمعية، اقترحتْها اللحظة العابرة؛ حين انتقيت روايته (رصاص في بنادق الآخرين)، وكان الأمر خارج اعتبارات الندوة فلم أكن أعلم أنه أحد المشاركين. جذبتني الرواية إلى عوالمها الجبلية، وما تكتنزه من ثقافة المكان وذاكرة الإنسان، كما لفتتني قدرة السارد على نقل تلك الفترة الحرجة للمنطقة إبّان أواخر العهد العثماني، مع رسم معالم المكان ووصف مجتمع القرية الجنوبية في رجال ألمع، دون إغفال ذكر أسماء الجبال والعقبات والعادات الاجتماعية، فكانت الرواية نموذجا ناجحا في التعبير عن أثر الطبيعة في صناعة السرد السعودي، لقدرة السارد على التعبير عن المكان والإنسان وصفا وسردا. وهي موافقة أيضا أتاحت لي أن أتمثّل موضوع الندوة قراءة وواقعا من خلال نموذج رجال ألمع، فالتقيت بالإنسان والمكان في رحلة ساردة كنت فيها أحد شخوص هذه الرحلة الثقافية القصيرة التي لم تمتدّ أكثر من يومين؛ لكنها كانت أكثر كثافة، فالتقت فيها ثقافة المكان وكثافة الزمان. (5) نص ألمعيّ، للشاعر الراحل محمد بن زايد الألمعي-رحمه الله- تظهر فيه معالم المكان بارزة تمنح النص خصوصيته الحبلية وتضاريسه الخاصة، فيبدو كمدرج جبليّ مفعم بالغيوم والحقول، موشّى بالجبال والجمال: للغيوم البعيدة خلف الجبال الجبال التي بعثرت شاءها للصخور الصخور التي أسكر النحل أحشاءها للينابيع وهي تعيد إلى عشبةٍ ماءها للبساتين يفضحها اللوز والياسمينة توشك إغواءها للمليحاتِ يهبطن أبها فيربكن صبحًا ثلاثاءها! للتي هيّأت لي مواسمها فانتفضت على غفلةٍ نحو سمراءَ عانقتها وهي تشكو إلى البرد حرقتها والفراشات تحرس حنَّاءها!