قراءة في محاضرة للدكتور محمد سعيد ربيع الغامدي (معرفة المعرفة)..
إضاءة لافتة لمخاتلة الخطابات القائمة على تزييف المعرفة وأساليب الاستطباع والاستحواذ وتكريس الرؤى والأيديولوجيات.
تناول الدكتور محمد ربيع في محاضرة له في مقهى الشريك الأدبي في الباحة جوهر المعرفة تحت عنوان (معرفة المعرفة) وتطرّق إلى الفرق بينها و بين الرؤية والأيديولوجيا، وقد وجدت فيها توضيحاً للأزمة التي نعاني منها على مستوى الوطن العربي؛ بل على مستوى العالم في ظل الأزمة التاريخية التي نمرّ فيها، وتشكّل منعطفا حاداً يحدّد مصير المنطقة التي تشتعل بأوار حرب ضروس؛ ربما كانت ناجمة عن إشكاليّة مفهوميّة تتعلّق بحقائق الصراع وأبعاده المعرفية؛ فقد لعب الإعلام دوراً بالغ الأهية في تزييف الحقائق وتقنيع الأيديولوجيّات بأقنعة معرفيّة مضلِّلة؛ سواء فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أو بالعلاقة مع العالم الغربي، الأمر الذي أدى إلى التباس المواقف، وتضارب الآراء وتدخّل المصالح في تفسير الوقائع وتحديد الفعل وردّ الفعل، وما ترتب على ذلك من وقائع كارثيّة وجد كل طرف من أطرافها ما يسوّغ به ممارساته. والمعرفة تعني “الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرّد أو بطريقة اكتساب المعلومات بإجراء قراءة الاستنتاجات قراءة واعية، وكذلك عبر المهارات والخبرات من خلال التجربة والتعليم”، وهي وفق تعبير أفلاطون (المعرفة الإيمان الحقيقي المبرّر) وقد عرّف عبد الوهاب المسيري المعرفة بقوله: المعرفي هو الكلّي والنهائي، وتعبير الكلّية يفيد الشمول والعموم، والنهائية تعني الغائيّة، وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء. كان مدخل الدكتور محمد سعيد ربيع الغامدي إلى الفكرة الرئيسة لهذه المحاضرة الإشارة إلى التمييز بين المعرفة والرؤية، وضرورة إدراك الفرق بين المعرفة في مفهومها المجرّد الذي يعني “الإدراك والوعي” والرؤية والأيديولوجيا التي لها مفهوم مختلف، ممّا ذكرني بمقالة معروفة للمفكروالأديب المشهور أحمد أمين مع اختلاف الموضوع في مقالة له تحت عنوان (الرأي و العقيدة)؛ إذ فرّق بين العقيدة بوصفها راسخة ثابتة تأخذ بمجامع القلوب والعقول، والرأي بوصفه وجهة نظر متغيّرة تحتمل الصواب والخطأ؛ إذ أشار المحاضر إلى أن ما وعيناه من كمٍّ هائل من المعارف من خلال محيطنا في المدرسة ومن الجامعة ووسائل الإعلام وغيرها من المصادر؛ إما معلومة ثابتة تمثل حقيقة من الحقائق الراسخة الثابتة أو رؤية ذات بعد مختلف لا يملك حصانة موضوعية (وهنا أستعمل عباراتي الخاصة)، وثمة فرق واضح بينهما، فالحقيقة الثابتة تنتمي إلى المعرفة ببعدها المجرد من الانحياز؛ أما الرؤية فهي أقرب ما يكون إلى قيمة خاصة سلبيّة أو إيجابيّة، بمعنى أنها تستند إلى اجتهاد صاحبها واعتقاده النابع من مزاجه الفكريّ وثقافته المكتسبة من مصادره التي اصطفاها وتقديراته الخاصة التي وصل إليها من خلال مقدّماته التي اجتهد في وضعها فأثمرت النتائج التي استخلصها وفق تلك المقدمات، فالمعلومة ثابتة والرؤية متحرّكة ومتحوّلة أو معتقدات اتخذت طابعداً ثابتاً تجعلنا نعتقد أنها حقيقة لايأتيها الباطل؛ بينما هي إما آراء و تأويلات رسخت في وعينا، أو خليط متجانس وكتلة متماسكة في حين أنها مجرد تأويلات متعارضة أو نتائج لمقدمات بنيت عليها ثم أختفت فتباينت النتائج، من هنا جاء الخلط بين الأيدولوجي والمعرفي. وقد وقف المحاضر عند نظرية (معرفة المعرفة) للمفكر الفرنسي (إدجار موران) العالم الاجتماعي المعاصر ويعرّف تفسه بأنه (بنائي بنائية) وهو ما يتسق مع مفهومه للحياة الذي اتخذه شعارا (من لا يفكر أحمق ) وناقش مصطلحين مهمّين يتصلان بالموضوع وهما: الاستطباع والاستحواذ. وقد أشار الدكتور محمد سعيد ربيع الغامدي إلى تقاطع البشر مع بعض الكائنات، التي تمارس مع صغارها أساليب الاستطباع، أي إلى أن تتطبّع أي تتحول العادة أو الرؤى إلى طبع؛ وصيغة استفعل في العربية تعني الدلالة على الطلب والاجتهاد في الحصول على الشيء، وتفيد الصيرورة والتحوّل، ولعلها هنا في (استطبع) تجمع بين الطلب والتحوّل، أي استطبع طلب التحول من العادة أو الرؤية إلى الانغراس في الطبع والرسوخ ، ثم تستحوذ عليها الأساليب ذاتها التي استطبعتها، والاستحواذ يعني إتمام السيطرة والانفراد بها، وهومصطلح مستعار من الاقتصاد (التبعية المالية و الإدارية للشركة الأم)، وقد أشار المحاضر إلى أن المعلومات المُفضية للاستطباع، تعد الوعي لأسر الأيديولوجيات بمختلف أنواعها، موضحاً أن التسليم بالكم مما ينصب على سمع وبصر الآدميين، مضاد للمعرفة، ومانع منها. ويرى في التمرد وسيلة للتخلص من الثقة في المعلومات، التي تحد ّمن بناء معرفة جديدة، مستعيداً نظرية «فرانسيس بيكون» عن أوهام العقل الأربعة :«أوهام القبيلة» و«خيالات الكهف» و«خداع السوق» و«ألاعيب المسرح». وفيما يتعلّق بـ«أوهام القبيلة» أوضح أن عقل الإنسان مرآة مقعّرة، تجعله يرى الأشياء في ضوء الهوى والتقاليد التي نشأ فيها، و معروف أن المرآة المقعرة تُختزل فيها الحقائق والمعارف في أضيق نطاق بالتعبير عنها بتقاليد القبيلة التي يتحتّم على أفرادها الانصياع لها دون تفكير، ولعل ذلك –فيما أرى - ينطبق على المعتقدات الحزبيّة و الفئويّة بينما تبدو «أوهام الكهف» شخصيّة، فكما وصفها «أفلاطون»، إذ يسكن أحدنا في كهف من التصورات، والنور الذي يأتي من الخارج يترك ظلاله على جدران الكهف، فلا نرى الحقيقة إلا من خلال الظلال التي تدخل الكهف، حيث يفهم من ذلك أن ثمة مساحة واسعة لا يبصرها من يدخل الكهف، وينطبق ذلك على التخيّل المحدود بحدود الذات كما هو واضح، فيما تقوم «أوهام السوق» على اللغة التي يرجح أنها أداة لسوء الفهم لا للفهم، ولعله يُفهم من ذلك أن المعرفة تنحصر فيما يُروّج له ضمن فلسفة تسويقيّة محدودة ينطلق منها صاحبها ضمن معادلة الربح والخسارة، وذلك وفقا لفهمي الخاص لهذه العبارة، فيما تنبني «ألاعيب المسرح» “بناءً خرافياً يصنعه رموز المذاهب والطوائف من حكايات سرديّة تغدو مع الوقت تاريخاً نسكنه دون تفكّر في سياقها الثقافي “ويخضع ذلك لرؤية المؤلف والمخرج والرؤية الفنية التي تحلّق بعيداًفي أجواز الخيال. ولعل جوهر الإشكالية المعرفية كما أشار إليها المحاضر هي النتائج التي بنيت على مقدمات ظنّها البغض مقدمات فانصرف لبناء نتائج دون تمييز بين الرؤية التي تتخذ صورة المعلومة والمعلومات التي يظنها رؤى بحكم ثباتها وصلابتها. وهذا ماهو شائع اليوم في أوساط المحلّلين و المراقبين؛ فثمة كثرة كاثرة من الرؤى التي يظن البعض أنها حقائق؛ وربما كان البعض يدرك ذلك؛ و لكنه يعمل على مراوغة المتلقي ليوهمه بصحة ما ذهب إليه ليخدم توجّهه ويتّسق مع أجندته وخصوصاً فيما يتصل بالقضايا الكبرى بوصفها مدار لعبة القوى وموازبنها التي تتصارع لتحظى بالهيمنة فتستثمر هذا الالتباس المعرفي لترسّخ رؤاها بوصفها حقائق ثابتة صلبة. ولمس جوهر الأزمة ذات الأبعاد المتعدّدة التي تعاني منها البشريّة في صراعاتها وأزماتها منذ بدء الخليقة كما أرى، وقد لمَست عصبا شديد الحساسية فيما نراه من كوارث وأيدولجيات لها جذورها في عمق التاريخ الإسلامي والإنساني، ولعل فيما نراه الآن من مجازر وخراب وتدمير يطال الشجر والحجر في فلسطين ومن انتهاك لكل المحرمات وتخريب للضمائر والقيم والأخلاق هو ما جذب انتباهي في هذه المحاضرة المهمة، ففيها تفسير لما وقر في أذهان أصحاب العقائد الفاسدة والأيدولوجيات الفاسدة المفسدة منذ ظهور حركة (سيكاري) اليهودية نسبة إلى سلاح القتل القصير الذي تنفذ فيه جماعات الإرهاب اليهودي المتطرف السيف المسمّى (سيكا) حيث عمد أعضاؤها إلى عمليات القتل وتسميم مياه الشرب وحرق المنازل واغتيال المسؤولين ممن يخالفونهم الرأي من معتنقي ديانتهم اليهودية منذعام 66 ق. م الذي انبعث من جديد عام 1995 على يد (إبجال عامير) الذي قتل إسحق رابين رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي أبرم مع منظمة التحرير (اتفاقية أوسلو) وعلى يد الإرهابي (مائير كاهانا) ومرتكب المجزرة في المسجد الإبراهيمي في الخليل (جولد ستين) في 15/4/1414، وهاهي تتجدّد على يد نتنياهو وحكومته اليمينية العنصرية وما ترتكبه من فظائع بحق المدنيين في قطاع غزة. ولم تخلُ المسيحية من أمثال هؤلاء المتطرفين في الماضي والحاضر من هذه المعتقدات الإجرامية الفاسدة على نحو ما فعلته محاكم التفتيش في الأندلس، وإبان الحروب الصليبية حيث قتل أكثر من عشرين ألفا من أتباع طائفة الكاتار المسيحية، والحروب الدينية التي استعرت لعدة قرون وذهب ضحيتها الملايين، ومنها جماعة (فرسان الهيكل) في القرون الوسطى، ونجد امتدادا لها في العصر الحاضر في (جيش الرّب) في أوغندا الذي أسس عام 1986 تحت شعار حماية المسيحية. ولم يخلُ التاريخ من الجماعات الإسلامية المتطّرفة التي استندت على رؤى وأصول لا علاقة لها بالعقيدة الإسلامية بدءاً من الخوارج والحشاشين والزنج والقرامطة الذي اتهم المتنبي بالانتماء إليهم من خلال قوله : شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستبيح دم الحجاج في الحرم وليس انتهاءً بالقاعدة و داعش. لقد جاءت هذه المحاضرة في وقتها لتسلّط الضوء على تزييف المعرفة الذي وسم بعض الخطابات الإعلامية والسياسية والفكرية بطابع المراوغة الخادعة التي تجعل من المفاهيم والممارسات المبرمجة وفق أهداف محدّدة عبر الاستطباع والاستحواذ، وهو ما سعت إليه خطابات الكولونيالية وما بعدها، وما وقر في فكر المحافظين الجدد وأشياعهم عبر مفاهيم العلمنة والشركات العابرة للقارّات وخطاباتها.