الحسد ... مرض أم عاطفة؟

في السطور التالية لن أتقمص شخصية الملاك النقي، ولن ألبس قلنسوة العابد التقي، ولن أطبع على جبهتي رقعة السجود. لكي أحذر من “الحسد” والحسود، فلن أكون بأي حال من الأحوال أبلغ قولًا من الله تعالى، ولا من نبيه المختار، ولا من الأئمة الأطهار، ولا من الأولياء الأخيار. ولن أبرئ نفسي من “الحسد” فمشاعر “الحسد” فطرة إنسانية، ومن يعتقد أنه بريء من هذه الفطرة، فهو إما مخطئ أو مغالط، وكأنه يريد أن يتجرد من آدميته؛ “ فالحسد” كامن في العقل اللاواعي لدى الإنسان، يولد مع الطفل الصغير، حيث تجده يغار من أخيه المولود الذي أتى بعده مباشرة، وقد يتسبب بإيذائه جسديًا – إنه “الحسد” الطفولي الذي يسميه علماء النفس “ الغيرة الطفولية Childish jealousy” كما أن “الحسد” يكون أكثر تمظهرًا بين المتقاربين أسريًا، أو مهنيًا، أو جغرافيًّا، أو عُمريًّا، أو جنسيًّا، وحتى عقائديًا. ويكون “الحسد” أكثر حدةً عندما تقصر المسافة بين المتحاسدين. وعلى حد فهمي، أن “الحسد” عبارة عن إفرازات نفسية تتكون نتيجة تفاعلات سيكولوجية تحدث لدى الفرد نحو فرد آخر، أو شعارات جماهيرية تتشكل على مستوى الجماعات تجاه جماعة أخرى، وحتى لدى مدن أو دول إزاء مدن ودول أخرى. “الحسد” عاطفة إنسانية – غامضة لدرجة الوضوح، كما أنها واضحةً لدرجة الغموض، وقد تناوله العديد من الفلاسفة - بحثًا وتفكيكًا - على مر العصور. حيث قال “أرسطو” (الحسد ظاهرة طبيعية تنشأ عن الغيرة، والرغبة في الانتماء، والتفوق الاجتماعي) ورأى (أن الحسد يمكن أن يكون محفزًا للتطور والتحسين الشخصي). لم يكن “الحسد” حَصْرًا في بلدٍ محدد، ولا حِكْرًا على شعب بذاته، ولا اختصاصًا بطائفة معينة، بل هو كالأعاصير المدارية التي تحدث منذ خلق اللهُ الأرضَ ومن عليها، وتغطي جميع أرجاء المعمورة، حيث تعتقد “الكونفوشيوسية 551- 479ق.م.” (أن الحسد عاطفة غير أخلاقية) مؤكدةً على (أن الأفراد لابد وأن يتابعوا الانضباط الذاتي وتنمية الذات، وإدارة أسرهم، وحكم بلادهم، وإحلال السلام في العالم). “المُوْهِيَّة 491-470 ق.م.” وهي مدرسة فلسفية صينية تدعو إلى الحب والإيثار العالمي، ترى (أن الغيرة هي نوع من عدم الرضا عن نجاح الآخرين أو تفوقهم، وهي مظهر من مظاهر الأنانية) ويدعون إلى (أنه يجب على الأفراد التخلص من الغيرة والسعي وراء الانسجام الاجتماعي والمصالح المشتركة). كان للعلماء المسلمين – خاصة المتصوفة - آراء عميقة تجاه “الحسد” فقد أشار “محيي الدين بن العربي” إلى (أن الحسد هو انعكاس للعجز والضعف الداخلي للإنسان، ونتيجة لعدم قدرته على الاغتباط والسعادة بما لديه). وللفلاسفة الأوروبيين في العصور الوسطى وفي العصر الحديث، آراء واعية تجاه “الحسد”، حيث نظر الفيلسوف التنويري المتمرد “باروخ سبينوزا 1632-1677م” إلى العواطف، ومنها “الحسد” على (أنها نتاج للتفاعل بين جسم الإنسان والعالم الخارجي، نابع من معرفة غير كاملة، وطريقة خاطئة نفسر بها العالم). أما “إمانويل كانط 1724-1804م “ فقد ذكر في كتابه “الأخلاق “ (أن الحسد ينشأ بسبب الاختلاف في التوزيع العادل للموارد والثروة في المجتمع) واعتبر (أن الحل الوحيد للحسد هو تحقيق العدالة الاجتماعية والتساوي في فرص الحياة). بدوره رأى فيلسوف التشاؤم “ آرتور شوبنهاور – 1788-1860م” (في الحسد مظهرًا من مظاهر الإرادة الإنسانية). المحلل النفسي النمساوي اللوذعي، والغواص الشهير في أعماق النفس البشرية “ سيغموند فرويد 1856 -1939م” اعتبر (الحسدَ مظهرًا من مظاهر الرغبات والصراعات العميقة الجذور في العقل اللاواعي). لابد في نهاية المقال من التساؤل: هل يستطيع المرء – ذكرًا كان أم أنثى - التخلص من الحسد؟ والإجابة على هذا السؤال – حسب رأيي الشخصي (لا) بل إن مجرد المحاولة من باب خرط القتاد. ولماذا؟ لأن “الحسد” ليس مرضًا نفسيًا كما يظنه الكثيرون، وإن قالوا وأسهبوا في القول. بل هو عاطفة إنسانية أصيلة كالمحبة والبغض والشفقة، وما على الإنسان إلا الاعتراف بالحسد، ووضعه في سياقه الصحيح، للحد من تداعياته السلبية وللتقليل من آثاره الوخيمة. وقد توسع علماء النفس المعاصرون في ميدان “الحسد” والتعمق فيه، ورأوا أنه يمكن تحييد “الحسد” وتثبيطه، من خلال الاستبطان، والتفكير العقلاني، واكتساب المزيد من المعرفة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا. وأقصى ما يمكن للمرء أن يفعله إذا شعر في لحظة ما أن الحسد قد أطل بقرنيه، واستفز مشاعره الدفينة، هو أن يلوم نفسه، ويستعيذ بالله من هذا النازغ، بل يدعو لأخيه المحسود - من قلب صادق - بالتوفيق والنجاح. وفي هذه الحال سوف يرتقي إلى مرتبة عليا، ليكون من ذوي النفوس اللوَّامَة التي أقسم الله بها لعظمة شأنها حين قال (ولا أقسمُ بالنفس اللوّاَمةِ) الآية 2- القيامة. لكل هذا وذاك، إن “الحسد” ظاهرة دنيوية، لن تختفي إلَّا في “الجنة” وفي حضرة الملكوت الأعلى، وعلى يده الكريمة مؤكِدًا ذلك في الآية الكريمة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) الآية 47- الحجر.