حاجة الإنسان إلى اللّسان حاجته إلى الزّمان والمكان.

يحين الاحتفاء الحوليّ العالميّ للّغة العربيّة يوم ١٨ من ديسمبر إثر جهود حثيثة من المملكة العربيّة السعوديّة أسفرت عن إقرار (اليونسكو) عام ٢٠١٢م تخصيص يوم عالميّ الذي يصادف هذا العام الذكرى الخمسين لإعلان اللغة العربيّة لغة رسميّة في الأمم المتّحدة. وقد دأبت اليونسكو حوليًّا على إشهار خطاب بهذه المناسبة يمكن رصد مساره ومصاره، وإدراك مراميه إبّان عقد من الزمن غير أنّه هذا العام كان بعنوان: «العربيّة: لغة الشعر والفنون» بدعم من مؤسّسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيريّة. لن أتماهى في تبيّن استجابات الجمهور احتفاءً واحتفالًا، أو أرصد تفاعل الوعي الجمعيّ في مستوى الأفراد أو القطاعين: العامّ والخاصّ؛ فذاك ميدان واسع حقيق بالدراسة واستخلاص النتائج بعد سبر المعطيات. ولن أغالب ذلك الاتّجاه الذي يرى الاحتفاء مناسبة عابرة في ركب مناسبات عدّة سرعان ما يخبو وهجها، وتنطفئ، وتمضي الأيام بذكرى حتى تحين المناسبة تارة أخرى؛ فيعود الوعي إلى الاحتفاء بعد غياب بينهما؛ فمثل هذا نظرة عقيم توصد باب الفأل، وتصدّ عن العمل. إنّما أنظر إلى هذا اليوم من منظور تجديد العهد، وتفقّد القصور، وتعزيز مواطن القوّة، وكشف مسارات حديثة، ورؤى بنّاءة طموح تتّسق والجوَّ العامَّ العامل في بلادنا بريادتها ومبادراتها المستدامة. فهذا اليوم لا يشغل حيّزًا زمنيًّا بين أيّام العام بقدر ما يودّ أن يشغله في متصوّر الأفراد والمؤسّسات، وأن يراجع كلٌّ مكانة العربيّة في الضمير، وأولويّتها في الاهتمام بما أنّها هُويّة تفرض اعتزاز الإنسان باللّسان اعتزازه بالمكان. وإذ يلتقي الخطاب الإشهاريّ هذا العام «العربيّة: لغة الشعر والفنون» بإعلاء المملكة العربيّة السعوديّة الشعر العربيّ، وإعلان هذا العام باسمه؛ فإنّ ذلك يعمّق رافدًا من روافد الهُويّة، ويفتح الآفاق نحو متصوّر رحب عن العربيّة بعدما ران عليها متصوّرات لم تفِها حقّها، إن لم تكن قد نالت منها سخريةً أو ازورارًا أو تحجيمًا أو تباكيًا على حالها، أو سوى ذلك من أحوال تشيع معجم القعود والخذلان، وما ذاك إلا ارتسام للأفق الضيّق والتصوّر المحدود عن العربيّة. فالعربيّة ليست موادّ معجميّة، ولا أبنية تصريفيّة، ولا قواعد نحويّة، ولا أفانين بلاغيّة، ولا شواهد شعريّة، أو متونًا نثريّة وحسب. إنّما هي لغة وظيفتها الرئيسة مثل أيّة لغة تكفل التواصل والفهم والإفهام، وهذا مأتى الأمر، وموئل الخطر؛ فعجمة اللسان عن البيان يعزل المرء عن أفكاره، وهواجس باله، ويجعله قاصرًا دون فهمها؛ فضلًا عن التعبير عنها، أو إفهام الآخرين؛ فانظر إلى شواهد ذلك حين يحملق المرء بعينيه إلى الفضاء بحثًا عمّا يستوعب ما في خلده، أو يتردّد بين جانحتيه؛ فيعيا عن تصوّره لغةً، أو القبض على ظنّه بحروف أو كلمات، وإذا ما أمسك بجناح فكره، وبادر إلى موافاتك بصيده طارت منه الكلمات طيران الفكرة في نفسه؛ فصمت بكيّ اللسان، قلق الجنان… اللغة مِحْمَل التواصل الإنسانيّ، والمنجز الحضاريّ؛ لذا ليس غريبًا أن نشهد تواتر الثنائيّات في خطابها الحوليّ الإشهاريّ للفت الأنظار إلى آفاق جديدة، أو تكريس آفاق قارّة من نوع خطاب هذا العام: «العربيّة: لغة الشعر والفنون»؛ ذلك أنّ العربيّة بوجه عامّ والشعر بوجه خاصّ ينتظم الفنون أداءً ورسمًا ومسرحًا وزخرفةً ونحتًا وتمثيلًا، وهي قوًى ناعمة يمكن توظيفها في سبيل تعميق الاعتزاز اللّغويّ، وترسيخ الهُويّة اللُغويّة؛ كما أنّها قوًى عاملة في سبيل تعزيز النّاتج المحليّ، وإشراك المجتمع بمختلف شرائحه واهتماماته في حراك دائم، وإسهام دؤوب في صناعة المشهد الثقافيّ. إنّ هذا التّراشح بين الشعر وأشقّائه الفنون الذين تناسلوا من رحم المنجز الإنسانيّ ليؤكّد ضرورة العمل على ترسيخ متصوّر رحب عن اللّغة العربيّة ينطلق من المتصوّر العامّ عن أيّة لغة حيّة مأتاه: حاجة الإنسان إلى اللّسان حاجته إلى الزمان والمكان؛ فبها يتأسّس المحيط الذي يكتنف الحياة من غير مشاحنة اللّغات الأخرى فضلًا أو شرفًا؛ فذاك لن يزيدها شرفًا مثلما أنه لن ينقص من منزلة سواها عند أهلها؛ لأنّ مثل هذه التصوّرات تمعن باللّسان العربيّ ومن ورائه الفكر في الانغلاق، وهذا ما يأباه كلّ ذي نظر. *أستاذ الأدب والنّقد المشارك في جامعة الملك سعود