هذا كتاب مهم ظهرت ترجمته في عام ٢٠١١, وقد نشره فرانك بارت، وهو ناشط فرنسي في مجال حقوق الإنسان، وقد عمل عدة سنوات كمنسق للجنة برتراند راسل لمحاكمة المجرمين في فلسطين، وهذه لجنة شعبية تحاكم مجرمي الحرب، و كان لها دور في محاكمة أمريكا لما حصل من جرائم في فيتنام، هذا الكتاب بدأ كمجموعة أسئلة أرسلها فرانك إلى المفكر اليهودي المعارض للصهيونية نعوم تشومسكي، ثم تطورت فكرته بعد أن حاز على تشجيع القراء بعد نشره الأسئلة وإجابتها على الشبكة، وأجرى حوارا مشتركا بين الرجلين بعد أن انضم إليهما المؤرخ اليهودي ايلان بابه، و بابه أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين فضحوا التزوير في الرواية الصهيونية، وضم الكتاب أيضا عددا من المقالات لتشومسكي وبابه توضح موقفيهما من الحرب على غزة بعد ما أسمته الدولة الصهيونية بعملية الرصاص المصبوب، العملية الإجرامية التي أنهتها الدولة الصهيونية يوم تتويج أوباما. يقول نعوم: إنه علينا كأمريكيين أن نحيي زعماءنا على عملهم الصادق لجلب الديمقراطية إلى العالم المنكوب، لكن الولايات المتحدة لا تدعم الديمقراطية إلا إذا اتفقت مع المصالح الأمريكية، في يناير عام ٢٠٠٦ صوت الفلسطينيون في انتخابات تمت مراقبتها عن كثب، وأعلن المراقبون الدوليون أنها كانت انتخابات حرة و نزيهة، ولكن تبين أن الفلسطينيين سيئو السلوك فقد صوتوا في الاتجاه الخاطئ، وهنا انضمت الولايات المتحدة إلى اسرائيل في معاقبة الشعب الفلسطيني، زادت اسرائيل من عنفها في غزة، وأحكمت عليه الحصار، وحجبت التمويل الذي يتوجب شرعا إيصاله إلى السلطة الفلسطينية ( يقصد عائدات الجمارك التي تحصلها إسرائيل على البضائع التي تمر عبر موانئها إلى الأراضي الفلسطينية)، وأصبحت الهجمات الإسرائيلية أشد قسوة بعد أسر العريف جلعاد شاليط، الأمر الذي وصفه الغرب بالجريمة الرهيبة، وهذا استخفاف محض، فقبل ذلك بيوم تماما، اختطفت اسرائيل مدنيين اثنين من غزة - وهذه جريمة أسوأ بكثير من أسر جندي- ونقلتهما إلى إسرائيل، وهذا عمل تمارسه إسرائيل بشكل روتيني، رغم أنه يمثل انتهاكا للقانون الدولي، و قد تم ضمهم إلى أكثر من ألف سجين تعتقلهم إسرائيل دون أن توجه لهم أي تهمة، ويعتبرون بالتالي مخطوفين، ومع ذلك لا يستأهل أي من هذا أكثر من التثاؤب في الغرب. اسرائيل وأمريكا لا ترغبان في أن تتوفر للفائز في الانتخابات الفلسطينية فرصة للحكم، ورفضتا دعوة حماس إلى وقف لإطلاق النار طويل المدى، يسمح بإجراء مفاوضات في شأن حل الدولتين الذي يحظى بالإجماع الدولي، ولا يرفضه حتى الآن إلا دولتان هما أمريكا وإسرائيل. قامت الولايات المتحدة بتشجيع الانقسام الفلسطيني، عبر تدريب قوات الأمن الوقائي التابع لمحمد دحلان على أن تستعيد بالقوة ما خسرته في صناديق الاقتراع، وأيدتها في ذلك الرباعية الدولية، ولكن وبالرغم من المساعدات الأمريكية هُزمت قوات دحلان بضربة استباقية من القوات التابعة للفائز في الانتخابات، وعليه فقد قامت أمريكا وإسرائيل بتشديد الخناق على غزة، السياسات التي اتبعتها اسرائيل يصفها ريتشارد فوك الباحث المرموق في القانون الدولي بأنها مقدمة للإبادة التي “ يجب أن تذكر العالم بالتعهد الشهير الذي صدر ما بعد النازية بأن الأمر لن يتكرر من جديد”، فُرض على من يحكم غزة ثلاثة شروط باسم “المجتمع الدولي”، وهو تعبير تقني يشير إلى الحكومة الأمريكية ومن يجاريها، والامتثال لهذه الشروط مطلوب ليُسمح للفلسطينيين باختلاس النظر من جدران زنزانتهم في غزة، والشروط هي ١- الاعتراف بإسرائيل، أي بحق إسرائيل في الوجود، أي بشرعية طرد الفلسطينيين من ديارهم ، ٢- نبذ العنف، ٣- الموافقة على كل الاتفاقات السابقة. وبخاصة خارطة الطريق. يتابع نعوم: إنه نفاق يصيب بالذهول ١- إسرائيل لا تعترف بالفلسطينيين وتكرس كل جهودها لمنع قيام فلسطين قابلة للحياة، ٢- إسرائيل لا تنبذ العنف، ولا يطالبها أحد بذلك، ٣- اسرائيل ترفض بقوة كل الاتفاقات السابقة، وبخاصة خارطة الطريق، قالت اسرائيل إنها توافق على خارطة الطريق مع أربعة عشر تحفظا، وهذه التحفظات تفرغ هذه الخارطة من مضمونها، ولو أخذنا بالتحفظ الأول، فإن إسرائيل طالبت بأن يضمن الفلسطينيون الهدوء التام، والكف عن التحريض، والتثقيف من أجل السلام، وتفكيك حماس وسائر التنظيمات، وذكرت أنه حتى لو تحقق لها هذا المطلب فإن “ خريطة الطريق لن تعلن بأن على إسرائيل وقف العنف والتحريض ضد الفلسطينيين”، لم تكن التحفظات الإسرائيلية مقبولة ولكن تم إخفاؤها، ثم تم نشرها في كتاب الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر “ فلسطين: السلام لا الفصل العنصري”، بالخلاصة لا يمكن أن تطلب مثل هذه الطلبات من أي حزب أوروبي، إذ إن العدل أن تطلب نفس الالتزامات من الطرفين، لكن الذهنية الإمبريالية المتأصلة في الثقافة الغربية تجعل هذا الزيف يمر دون انتقاد. يذكر بابه أن التأييد الأمريكي للصهاينة يتأثر بثلاثة قوى، أولها المسيحية الصهيونية، وهي طائفة قوية تعتقد أن قيام إسرائيل تمهيد للعودة الثانية للمسيح ومعركة هرمجدون التي سيعتنق اليهود بعدها المسيحية، وهذه الطائفة مؤثرة في أمريكا وعدد معتنقيها يبلغ أربعين مليونا، وقد وافقت السلطات الصهيونية على أن يقيموا ما يسمونه السفارة المسيحية العالمية في القدس، وأصبح لهذه الكنائس جهاز خاص يركز على مساعدة إسرائيل في الولايات المتحدة. القوة الثانية الداعمة للصهاينة هي الايباك، والقوة الثالثة هي قوة اللوبي الذي يمثل شركات السلاح، بالمقابل كان هناك من خبراء وزارة الخارجية الأمريكية مجموعة ممن سُموا المستعربين، بدأوا منذ بعثة كنج كراين التي أرسلها الرئيس ويلسون لاستطلاع رأي سكان فلسطين في وعد بلفور، والذين كان تقريرهم مخالفا لما أرادته الصهيونية، وكان لهم نشاط في حقبة الرؤساء ترومان وايزنهاور وكينيدي، مستعربو وزارة الخارجية كانوا أكثر اعتدالا، وكانوا يعتقدون أن دعم الدولة الصهيونية يؤثر سلبا على المصالح الامريكية في المنطقة، وبفضلهم لم تتراجع أمريكا حتى الان عن تأييدها لحق العودة للفلسطينيين، كما أن هؤلاء المستعربين أوصلوا للخارجية الأمريكية ما قامت به الدولة الصهيونية من تطهير عرقي في فلسطين، الرئيس ايزنهاور علق المساعدات لإسرائيل حتى تضع حدا لتحويل مياه نهر الأردن، ولكن نشوء الايباك أضعف تأثير المستعربين منذ عصر جونسون في بداية ستينيات القرن الماضي. يفصل بابيه في تأثير مورغانثو في العقل السياسي الأمريكي، مورغانثو لاجئ من ألمانيا لم يسبقه في التأثير إلا كيسنجر، ألف مورغانثو كتاب “السياسة بين الأمم “عام ١٩٤٧, ربط فيه السياسة بعالم المال والأعمال، أي أن اتخاذ القرار يتم بمعزل عن العواطف والقيم ويستند إلى التكلفة والربح وموازين القوى، وأصبحت إسرائيل الدولة الأولى التي تعتمد مقاربته، وقد قدم مورغانثو المشورة لديفيد بن جوريون، السياسة الأمريكية ترتكز على ثلاثة مبادئ توجيهية أساسية، أولها أن على عملية السلام أن ترتكز إلى ميزان القوى في منطقة النزاع، وهذا يعني أنه عندما يبدأ البحث عن الحل فيجب أن يتلاءم أكثر مع مفهوم الطرف الأقوى ويتلاءم أقل مع مفهوم الطرف الأضعف. ولذا فإن كل ما سوق له الأمريكيون على أنه خطة سلام كان صيغة يُقصد بها إرضاء وجهة النظر الإسرائيلية، وفرضها على الفلسطينيين. ولذا فإن الخطط الأمريكية تمخضت عن السماح لإسرائيل بالإبقاء على جزء كبير من الضفة الغربية في اسرائيل، وحصر قطاع غزة ليصبح سجنا مكشوفا للفلسطينيين، هذا السياق المميت تأكد في اتفاق اوسلو واقتراحات السلام الهشة التي تلته. المبدأ التوجيهي الثالث يقضي أنه لا تاريخ لعملية السلام، فكل محاولة تبدأ من المربع الأول ولا تستند على أي خطة سلام سابقة، وهكذا أصبح مفهوم معسكر السلام الصهيوني أن عام ١٩٦٧ هو العام الذي بدأ فيه النزاع . تورط المتلقي الضعيف - الفلسطينيون - في هذه العمليات فجاءت اوسلو وما بعدها، واتضح أن إسرائيل تعرض الانسحاب من جزء من الأراضي المحتلة، وهنا يتساءل بابه: متى أدرك عرفات أنه قد تعرض للغش؟ هل هي في الساعة التي تردد فيها في توقيع الاتفاق عام ١٩٩٤, عندما أجبره حسنى مبارك بما يشبه الضغط الجسدي على التوقيع! ومرة أخرى عندما دفع به كلينتون جسديا الى الكوخ في كامب ديفيد، ليوقع على رسالة استسلام لمنطق الواقعية الجديدة ! تضمن نص الاستسلام حلا نهائيا يتألف من بانتوستانات فلسطينية في جزء من الأراضى المحتلة، ومن السلام مع إسرائيل. و سهل حبك الرواية، قالوا: إن التعصب الإسلامي البدائي هو سبب عجز الفلسطينيين عن المشاركة في سلام أمريكي منطقي وسليم، وهنا ألف أولمرت نسخة اسرائيلية أخرى للسلام تتضمن: فك الارتباط مع غزة، وسلامً طويل الأمد مع الفلسطينيين يتضمن أرضا تشكل ١٢ في المئة فقط من أراضي فلسطين التاريخية لا تتمتع بسيادة حقيقية ولا استقلال اقتصادي، وطبعا من دون القدس ولا حل لمشكلة اللاجئين. و في باب بعنوان النكبة في التاريخ الإسرائيلي يفصل بابه كيف أن الدولة الصهيونية استطاعت إخفاء ما حل بعرب فلسطين مما أدى إلى خروجهم، فقد أنيط بكل مجموعة عسكرية إسرائيلية التطهير العرقي لمساحة من أرض فلسطين، أضيف القتل والاغتصاب إلى الوسائل التي اتبعتها القوات الصهيونية، تجد التوجيه بالطرد والترانسفير والإبادة في كتابات هرتزل عام ١٨٩٥ ، وفي كتابات بن جوريون، وتقرؤها على أرض الواقع، والتي انتهت إلى تهجير ثمانمائة ألف فلسطيني من المساحة التي أعطيت للصهاينة في قرار التقسيم. و في الكتاب أبواب أخرى لا تقل أهمية عما عرضناه، منها مقال عن حرب غزة بعنوان: ابيدوا جميع البهائم، وغيتو غزة وغيرها ويتعذر تقديمها في هذه المساحة رغم أهميتها. الكتاب يشكل رواية حزينة لمشروعات تنسب الى السلام، والسلام هنا لا يعني أكثر من تجريد الضعيف من كل ما بقى له من فتات أرض كان اسمها فلسطين.