محمود تراوري..

ذلك الكاتب الملهم؛ والأديب المتفرّد.

الكتابة عن الأصدقاء الأدباء نوعٌ من المسامرة الأدبية اللطيفة على مافيها من مغامرة محببة إلى النفس؛وإلى أعمالهم الأدبية التي حملت أريج أقلامهم ؛وعرق جباههم إلى المنابر والمجالس الأدبية يعود الفضل في إذكاء روح الحديث عن عالمهم الإبداعي المستقلّ ؛وتجلياتهم النابضة بجمال الحياة وألقها. هنالك يجد المتلقي نفسه داخلاً في مقام التنويه والإشادة الضروريَّة؛ وسينظر إلى وقفته تلك كدينٍ مفروض يطوِّق عنقه؛وعليه أن يدفعه دفعاً شعورياً صادقاً إلى اعترافه بالقامة الأدبية التي هو بصدد الكلام عنها؛على أنَّ ذلك الاعتراف الأدبي سينأى بنفسه من أن ينزلق في فخِّ المدح والإطراء الفجّ وما إلى ذلك؛إذ الكاتب الحقيقي في غنى عن ذلك الإطراءالمندلق في الكلمات الموشَّاة. والحديث عن الصديق الكاتب محمود تراوري وتجربته الإبداعية أشبه مايكون؛ بمفهوم «السهل الممتنع» الملازم لبعض التجارب الشعرية؛ حيث تبدو شخصيته الإنسانية المتواضعة كالذهب الذي لايصدأ على مرِّ الليالي والأيام ؛ وتلك هي السُّهولة التي أعنيها. وتبدو تجاربه الإبداعية الواسعة؛ مشروعات فنية غزيرة ؛ لايكاد يُحاط بأبعادها الفنية؛ولابآفاقها الجمالية في مقالةٍ خاطفة كهذه؛وذلك هو الجانب الممتنع الذي أعنيه؛وأتهيَّب كثيراً من الولوج في دهاليزه. ومن هنا أجد نفسي حائراً في الإشارة إلى جوانبه الفنية العديدة التي اتصف بها؛ وتقنياته البارعة التي اهتدى إليها في كتاباته النوعيَّة التي أثرى بها المكتبة العربية. لاسبيل لي إذن أمام هذه الحيرة المستبدَّة؛ والخشية من تعدد مسارات القول؛ سوى العودة مبدئياً إلى دفاتر الذكريات المتشبثة بنسيج الذاكرة؛ وفي خِزانة هذه الذكرى أستطيع أن أملي انطباعي الأوَّلي -الذي تنامى فيما بعد- عن ميول كاتبنا الإبداعية المتأصِّلة في أعماقه؛ إلى أن أصبحتْ كالمنارات السَّامقة التي لاتخطئها العين الفاحصة؛ ولايزيغ عنها القلب المولع بالجمال . _______ -ذكرى أُمسية. ذات ليلة من ليالي المرحلة الجامعية؛ وفي حجرةٍ خاصة تعانق أبراج السماء؛ كنت اتخذتها سكناً لدى بعض قرابتي؛ في حي «جبل الشراشف» المتصل بحارة «دحلة الرّشَّد»بمكة حرسها الله؛ أذكر أنَّ الصديقين الأديبين: عبدالهادي الشهري؛ومحمود تراوري؛ قاما بزيارتي في أوائل ليلة من ليالي الشتاء؛ حيث تجشما عناء صعود ذلك الجبل المُتعب؛ وقدما إليَّ على ظهر البسيطة. وفرحاً بزيارتهما؛ وأنس لقائهما؛هيأت بعض التجارب الشعرية المبكرة؛ على اعتبار أنَّ لقاءً كهذا لن يكون أقلّ من أمسية لها وزنها مما تقيمها نوادينا الأدبية المرموقة في الغربية وغيرها من المناطق..فهي إذن أدبية صِرفة؛ حيث لاشيء أثير سوى الأدب وفنونه؛ مما خالط نفوسنا في تلك الحقبة؛ كما أنَّ تداول الآراء وإبداء الملحوظات في سهرة ودِّية كهذه؛ تتيح للواحد منا الوقوف على أخطائه وعثراته في مجال الكتابة الإبداعية؛لتحاشي الوقوع فيها مستقبلاً .. حضر الصديق عبدالهادي أول الأمر؛ ثم تلاه الصديق محمود؛ ملبياً دعوتنا .جاءنا ومعه ورقات مكتوبة على آلة كاتبة؛ بخط أنيق واضح. كانت تلك الورقات عبارة عن قصة قصيرة من «بنات أفكاره». قرأها محمود بصوته النديِّ؛ فحلَّقنا معه في أجوائها العجيبة. ثم قرأها عبدالهادي؛ وقرأتها ؛وتناقشنا حولها؛ ماشاء الله لنا من نقاش .. حتى إذا انتصف الليل؛ قرر الصديقان الانصراف إلى منازلهم استعداداً لمحاضرات اليوم التالي. ولإعجابنا بالقصة الطريقة؛وقبل أن ينفضَّ الاجتماع؛ طلبنا إلى محمود إبقاءها عندي حتى أتمكن من تصوير نسختين لي وللصديق عبدالهادي؛ ومن ثمَّ إعادة الأصل إليه؛ باعتباره نسخة وحيدة كما ذكر لنا ذلك. ثم جرت الأحداث؛ ومضى ثلاثتنا في دوَّامة الحياة وصخبها؛ وازدحمت أوقاتنا بالشواغل والالتزامات؛ وبقيتْ القصة معي في أدراج تلك المكتبة المتواضعة.! وبعد فترة وجيزة من تلك الليلة؛ انتقل الصديقان الكريمان إلى جدة للسكنى فيها؛فصارت اللقاءات شحيحة جداً. ولم يمض وقت طويل حتى لحقتُ بهما؛ حين قُدِّر لي أن أتعيَّن مدرساً في إحدى مدارس جدة. وفي منزل عبدالهادي العامر؛ الذي كان بمثابة صالون أدبي عتيد؛ استعدنا تلك اللقاءات الحميمة وبعضاً من سويعاتها. وذات ليلة من ليالي جدة؛ فاجأني محمود بالسؤال عن قصته الوحيدة؛ التي ائتمنني عليها! أُسقط في يدي وقتها..فوجدتني في موقفٍ لاأُحسد عليه..!! كنت كالذاهل عن نفسه وعمّن حوله.. واستعصتْ عليَّ الإجابة خجلاً مما يمكن أن يسمَّى تفريطاً أو تهاوناًوقعتُ فيه؛ وأي تهاون أشد من إضاعة عمل أدبي؛ سكب فيه صاحبه عُصارة فكره؛وذوب وجدانه؟!!! كان لابدّ من المصارحة؛ عن مصير قصته الغامض؛ وبعض المفقودات المرافقة لها من الكتب الأثيرة!! وقلت له ياصديقي: قصتك تلك جعلتني أؤمن بمقولة:»انشقَّتْ الأرض وابتعلتها» ؟!! وأردفت: القصَّة صارتْ لها قصَّة دراماتيكية..!! وتابعت الحديث: لمَّا جاء خبر تعييني للتدريس في جدة؛ اضطررت للانتقال إليها على جناح السرعة؛ وبقيت المكتبة المتواضعة قابعة في الغرفة التي تسامرنا فيها أول مرة؛ في أمسيتنا التاريخية. وفي أحد أدراجها وضعتْ قصتك. لم أُخبر أحداً من أقاربي بأنني سأعود إلى لملمتها؛ ونسيت التأكيد عليهم بالمحافظة عليها. وعندما احتاج بعض أبنائهم إلى الغرفة؛ زهد في ذلك الدولاب المتهالك؛ ومحتوياته من الكتب الشاحبة؛ فقام بالتخلص منها اعتقاداً منه أنني استغنيتُ عنها تماماً؛ إذ لم أعد على ذمّة الجامعة. استمع إليَّ محمود استماع الأديب المهذّب؛ولم يوجِّه إليَّ أدنى عتاب؛ لا لمحاً ولا تصريحاً؛ وإنَّما تقبَّل الحكاية بروح رياضية عالية.. فأكبرته ساعتها أيَّما إكبار؛ وتأكدت بأنني في حضرة أديب مليونير بروحه الإنسانية الراقية. ذلك الموقف الدرامي مازال يلحّ عليَّ؛ ولعلَّها فرصة في أن ألتمس منه العذر ثانية وثالثة عن فقدان عمله النفيس؛ الذي يمثل له-فيما أعتقد- محطة مهمة من محطات إبداعه القصصي. _______ محمود تراوري ظاهرة أدبية فريدة. ليس من المغالطة في شيء؛ولامن قبيل الثرثرة الباهتة؛ لو قلت إنَّ هذا الكاتب المبدع أقلُّ مايُوصف به أنه علمٌ بارز من أعلام القصة والرواية والمقالة في المملكة والعالم العربي؛ استوعب رسالة الفنّ الحقيقي؛ ودأب على تطوير ذاته عاشقاً مستهاماً بالكتابة الإبداعية؛ فوق أنَّه ألمّ بالتجارب الإنسانية الرائدة من منجزات الأدب العالمي؛ وتشكلت بوصلته الفنية-إن صحّ التعبير- على مرأى ومسمع من ضميره الحي اليقظ. ولا أدلَّ على ذلك من أعماله المنشورة؛ ذات الأفق الإبداعيِّ المستقلّ؛والرؤية الحضارية المنفتحة على الآخر؛مثل: مجموعته القصصية«ريش الحمام» ورواية «ميمونة» ؛ و رواية «أخضر ياعود القنا»؛وغيرها من الأعمال الأدبية ذات المذاقات الخاصة؛ والعبق الآسر.ويمكن إجمال رحلة نضاله في عالم الكتابة الأدبية؛ ونشاطاته في ميادين الحياة الثقافية؛ على هذا النحو: 1-مسيرته الأدبية الخصبة؛ والإصدارات القصصية والروائية المتميزة في مضامينها الفكرية؛ وفي اتجاهاتها ووسائلها الفنية؛وقضاياها ذات الصلة بالإنسان؛ والأرض والكون؛ إلى جانب أعماله المسرحية. 2-نشاطاته الصحفية والإعلامية؛ممثلةً في تأسيسه القسم الثقافي في صحيفة (الرياضية)؛ ودوره الريادي البارز في الحركة الثقافية وقتذاك من خلال استقطاب الشعراء والمقاليين ومن إليهم. مشاركته الفعَّالة في تأسيس جريدة الوطن السعودية؛ مع الأستاذ الناقد الفذّ/فائز أبا وآخرين. اشتغاله في بعض البرامج الثقافية في قناة اقرأ التلفازية الفضائية؛ والإذاعة السعودية. أحيا العديدمن الأمسيات القصصية، وشارك وأدار سلسلة من المحاضرات، والندوات في معظم مناطق المملكة، وبعض البلدان العربية وغير العربية. ويبقى الحديث عن الأستاذ محمود تراوري متشعباً وطويلاً؛ ومن الصعب الإحاطة الوافيةبمعالم شخصيته وسيرته الأدبية الحافلة؛ ونشاطه التنويري الملموس؛ في نهضة الحركة الأدبية المعاصرة؛ والفضاء السَّردي المدهش.