حاز هذا الكتاب على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات عام 2017م، وقد طُبع ضمن مشروع ارتياد الآفاق وهو أحد مشروعات أبوظبي الثقافية، ويهدف لإحياء أدب الرحلة العربي، وقد قام المشروع بطباعة مئات الكتب، تضمنت كلاسيكيات أدب الرحلة، كما تضمنت نصوصاً كانت مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودونوا تجاربهم، وتضمن المشروع كتباً في أدب الرحلة العربي إلى العالم الغربي خلال القرنين الأخيرين، تكشف هذه الرحلات عن طبيعة الوعي بالآخر عند العرب، كما تقول مقدمة الناشر. أما رحلات الحج فتُعتبر في الثقافة العربية أدباً قائماً بذاته. ونراه من خلال هذا الكتاب يزدهر على أيدي المغاربة نظراً لطول الرحلة وكثرة محطاتها، وتعدد غاياتها، فمن الرحالة تجار يبيعون ويشترون ويعقدون الصفقات، ومنهم طلاب وعلماء ينقطعون في الطريق للعلم في الأزهر والحرمين وأحيانا في دمشق، ومنهم فقراء انقطعوا فاضطروا للعمل في مصر أو الشام حتى يمولوا رحلة عودتهم، وجزء مهم من رحلاتهم يتضمن زيارة الأضرحة التي أُقيمت لبعض الشيوخ المغاربة الذين استقروا بعد حجهم في المشرق، ولعل القارئ هنا يلاحظ أن كثيراً من المقامات في مصر هي في الأصل لمتصوفين من المغرب، مثل البوصيري والمرسي أبو العباس، والسيد البدوي، وكثير غيرهم، كما نلحظ في هذه الرحلة أن زعيم السنوسيين الذين كانوا يقاتلون لتحرير ليبيا كان في ضيافة الملك عبد العزيز يحشد التأييد والدعم لقضيته مستفيداً من اجتماع المسلمين في الحج، وكان الحجاج المغاربة يعمدون إلى الالتقاء به ودعمه، و يتردد كثيراً في هذه الرحلة ذكر الأمير عبدالقادر الجزائري، الذي أبعدته السلطات الفرنسية إلى الشام وأصبح له فيها شأن، وتجمع حوله الكثير من المهاجرين المغاربة. في مقدمة ضافية فصل المحقق د. عز المغرب معنينو القول في رحلات الحج المغربية وما طرأ عليها من تغيرات، كان المغاربة وحجاج غرب أفريقيا يتجمعون في فاس حيث جامع القرويين، ثم يخرجون في قافلة كبيرة تضم أفراداً من الأسرة الملكية، وكلما كانت السلطة الحاكمة في المغرب قوية كثرت الهدايا التي تحملها القافلة لأشراف الحرمين الشريفين ومشايخ مصر، وكذلك الإعانات إلى عابري السبيل وطلاب العلم. يقطع الركب المسافة براً إلى مصر في خمسين يوماً، يصلون القاهرة في حالة يرثى لها، يقضون في القاهرة شهراً، بعضهم يتاجر وبعضهم يطلب العلم، بعضهم كان ينضم إلى حملات الجهاد أيام الدولة المملوكية وأيام العثمانيين، وكذلك ضد الفرنسيين الذين احتلوا مصر. ومع تطور النقل البحري استطاعوا أن يوفروا وقتاً وجهداً وصار بعضهم يسافر بحراً إلى ميناء الاسكندرية، ثم ينتقلون براً إلى الحجاز، وهناك يقضون أياما قاسية يتعرضون فيها لأذى قطاع الطرق وذلك قبل الحقبة السعودية، بعد افتتاح قناة السويس أصبحوا يتنقلون بحراً إلى موانئ الحجاز، وبعد انقضاء الحج كانوا عادة ما يذهبون إلى الشام يزورون القدس وما حولها. وقد يستقر بعضهم في أي من المدن التي يمرون بها لأسباب شتى. بعض الظروف السياسية كانت تؤدي إلى انقطاع الحج المغربي، مثلما حدث أيام احتلال نابليون لمصر، وكذلك أيام حكمت الدولة السعودية الأولى مكة، فإن الحجاج المغاربة كانوا يبحثون عن أضرحة الأولياء فيما كانت الدعوة الوهابية الإصلاحية لا تقبل ذلك، وحدثت مناوشات أدت إلى انقطاع الحج المغربي. ثم حث السلطان مولاي سليمان العلوي العلماء المغاربة على استئناف الحج، ووجههم إلى التحاور مع الأمير سعود بن عبد العزيز ليدعونه لمنع أتباعه من تكفير العوام. تلا ذلك دخول بلدان أفريقيا العربية تحت الحكم الاستعماري، فظهرت عوائق تمنع حرية التنقل بين البلدان العربية، وسنت سلطات فرنسا شروطاً للحج كما سنت سلطات مصر الانجليزية شروطاً يفصلها هذا الحاج. منها أن يسدد كل ما عليه من ضرائب، ثم يثبت أنه يملك مبلغاً يكفيه للحج، ويثبت أنه ترك لعائلته ما يكفيها في غيابه، ويوكل من يرعى عائلته ويسدد ديونه إن اقتضى الأمر في غيابه، وإذا شاء أن يمر بمصر فإنه يترك مبلغاً في القنصلية المصرية بمرسيليا، كرهنٍ حتى لا ينزل مصر وهو لا يحمل ما يكفيه من مال فيصبح عالة على الناس، كما يحتاج شهادة صحية تثبت أنه تلقى التطعيمات المطلوبة، ويجب على إدارة تجهيز المراكب أن تؤمن للراكب كمية كافية من الطعام خلال السفر، ويشترط في أي مركب يحمل حجاجاً أن يكون به حمام معداً للتطهير. نشر الكتاب على شكل مقالات تحت اسم الرحلة الحجازية، ولكن محقق الكتاب أسماه رحلة حاج مغربي، حتى لا يختلط الأمر على القارئ فهناك أكثر من كاتب -منهم شكيب أرسلان - سموا كتبهم الرحلة الحجازية، كما أن الحجاز لا تستأثر إلا بحوالي ربع الكتاب، بينما جل الكتاب يغطي الرحلة قبل وبعد الحج. ولذا فالكتاب جولة في المدن التي مر بها، ويعطي مجالا للمقارنة بينها، تشعر بأن الرجل يسير عبر مخطط واضح لا بد وأنه قد رتبه من خلال مرشد ثقافي وسياحي. بدأت رحلته من سلا بلده المغربية إلى الدار البيضاء، ثم ركب البحر إلى مرسيليا، ومنها بالبحر إلى الاسكندرية، يصف الباخرتين اللتين ركب فيهما، بأنهما كانتا متعددتي الدرجات، مما يشبه فنادق الدرجة الأولى بكل ما فيها من رفاهية وفخامة إلى السطح أو القاعدة التي تفتقر إلى الكثير من الحاجات التي يريدها الإنسان، في الاسكندرية توسط للركب القنصل الفرنسي فلم يمكثوا في الحجر الصحي (الكرنتينة)، بعدها ركبوا القطار إلى القاهرة، وقد أثنى على جمال وأناقة وتمدن كلتا المدينتين، وقابل فيهما شيوخه، وزار أماكن الدراسة والمعاهد الدينية والمتاحف والتقى شيوخ الأزهر، وزار الرواق المغربي، وهو رواق في الأزهر خاص بالطلبة المغاربة الذين يفدون من أجل العلم ويُنفق عليهم من أوقاف الأزهر. وقد شهد استقبالاً شعبياً هائلاً للزعيم المصري مصطفى النحاس الذي كان مسافراً عبر الاسكندرية إلى لندن للتفاوض على إنهاء المعاهدة المصرية البريطانية، وذكر أن بعض الناس ماتوا تحت عجلات القطار الذي يقل الزعيم، لم يشتك في رحلته من شيء بقدر ما اشتكى من الضرائب التي يتعين على الحاج دفعها في مصر، وكذلك من أسعار ركوب السيارات بين مدن الحج. ومن القاهرة إلى السويس بالقطار ثم إلى ينبع راكباً الباخرة «الطائف». وهذه السفينة وتلك التي عادوا منها إلى بيروت قادمين من جدة كانتا شديدتي الازدحام وليس فيهما من الرفاه الذي في السفن الأخرى شيء. في ينبع نزلوا في بيوت الراحة حيث ينتظرون إعداد سيارات تأخذهم إلى المدينة، واستقبلهم كبير أعيان البلد فاعتنى بهم غاية الاعتناء، وهذا عوضهم عما ضايقهم من نقص في الخدمات. الطريق بين ينبع والمدينة صعب غير معبد ويقول إن السفر خلاله من خرق العادة. ولكنه يستدرك فيقول (أما حالة الحجاز والمدينة المنورة بالأخص فعلى أحسن ما يكون من الأمن التام الذي لم يكن يخطر بالبال، وإقامة الحدود والشرائع جارية على الكبير والصغير والجليل والحقير)، ثم تكلم عن الطرق من المدينة إلى جدة ومكة، فذكر توافر أماكن للراحة والمبيت رغم بساطتها. وأثنى على توافر السلع والخدمات والحركة التجارية النشطة فيهما، كما أثنى على الحركة العلمية في الحرمين، ودار بينه وبين بعض الشيوخ حوارا اقتنع بعده أن أكثر ما يتهمون به ممارسات أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يكن صحيحاً، وقرأ مع بعضهم مقدمة كتاب التوسل والوسيلة، وقد أثنى على المطوفين والمزورين الذين يقومون على الاعتناء بالحجاج المغاربة، ووصف الحرمين وصف المعجب الذي يملأه الإيمان، كما وصف الشوارع والمحال التجارية، وتحدث عن مدرسة الفلاح وابتعاث صاحبها طلابا إلى الهند ليواصلوا تعليمهم، كما وصف موكب الملك عبد العزيز منذ قيامه من الرياض حتى وصوله إلى مكة، وتحدث عن المناسبتين اللتين دعا فيهما الملك بعض الحجيج إلى العشاء وما كان فيهما من حفل خطابي وشعري وحديث الملك فيهما. بعد انتهاء الحج لم يسمح لهم بالمغادرة إلى جدة إلا في اليوم السابع عشر، ويبدو ذلك كنوع من التنظيم، ثم غادروا جدة بالبحر إلى بيروت، وفي الطريق قضوا خمسة أيام في كرنتينة الطور، ووصفُها يجعلها قرية نموذجية متكاملة، وعندما وصلوا بيروت مكثوا في كرنتينة نموذجية أخرى، وكل ذلك يدل على تخوف الدول مما يمكن أن يحدث من أوبئة تنتشر خلال الحج. ثم نصاحب الحاج في رحلة ثقافية سياحية من بيروت إلى دمشق ومن ثم مدن فلسطين مثل القدس وبيت لحم ونابلس والناصرة، ثم حيفا وعكا، ثم عائداً إلى بيروت عبر صيدا، ثم نصحبه في سياحة مفصلة في مرسيليا. كتاب جميل على قصره، أسلوبه ساحر، وفيه الكثير من الطرافة وبعض الغرابة، يقول مثلا إن صيدا تنتج سبعين مليون حبة برتقال وثلاثين مليون حبة ليمون سنويا، وفي مقطع له عن مرسيليا يقول «مررنا على الشاطئ البحري، حيث محلات السياحة والاصطياف ومسرح الغزلان، والمناظر التي تسلب عقول الإنسان، وتُصير ذا الثروة العظيمة في خبر كان إلا من أخذ الله بيده وألهمه طريق رشده». كانت تلك رحلة العمر للحاج إدريس بن محمد بن إدريس الجعيدي السلوي، غفر الله له، وبر له حجه.