في يناير 2013م، وفي المدينة المنورة، التقى الكاتب محمد بن عبدالله السيف برجل الاقتصاد والتجارة، الوجيه المدني يوسف الميمني، الحفيّ بمدينته وبما يكتب عنها وفيها، الذي أخذ بيده وقدَّمه إلى السيد خالد بن حمزة غوث، وقال مخاطبًا السيف: (هذا خالد غوث الذي تمنيَّتُ عليكَ كتابة سيرة والده)، ومن هذا اللقاء انبثقت البداياتُ المبكرة لفكرة هذا الكتاب، الذي ليس هو (سيرةً غيريةً) بالمفهوم الفني لهذا النَّسق من الكتابة الأدبية، فقط، وليس تأريخًا فقط لأحوال المدينة المنورة، الحاضرة الحجازية التي ينتمي إليها السيد حمزة بن إبراهيم غوث (1297هـ-1390هـ=1880م-1970م)، أو يتمحور حول الأقاليم والدول التي طافها غوث، وتنقَّل بينها خلال حياته الطويلة، وتجربته الثريَّة في العمل السياسي والدبلوماسي الوطني. ولأنَّ الكتاب لم ينحصر في هذين الحقلين من حقول المعرفة- وإن كان وفَّاهما حقَّهُما من البحث والوصف والتَّتبُع والرصد-، فهو تطوافٌ متأنٍّ موسَّع مستقصي، يرصد قرنًا زمنيًا مترعًا بالأحداث والوقائع، والأحوال ذات الصَّلة المتينة بتاريخ الدولة السعودية الحديثة، وذات الوشيجة البيِّنة بتاريخ موطن حمزة غوث: مولده؛ ومثواه الأخير: المدينة المنورة، إبان القرن الرابع عشر الهجري. ولأنَّ محمد السيف امتلك دُرْبةً وتجربةً في هذا الاتجاه من اتجاهات الكتابة؛ سير الشخصيات وتاريخها الإنساني والإداري -وليس الشخصي والذاتي فقط- وأدوارها الوطنية، وتماسّها مع التحولَّات؛ لانت له قياد الكتابة، وأصبح قديرًا على نظم تفريعات حياة شخصياته، ولملمة جزئياتها، وتنظيم مراحلها ومستوياتها، وتتبُّع تحولاتها، وقراءة تأثيرها وأبعادها. ومجادلة ما استقرَّ من أفكارٍ حولها، وتفنيد بعضه، وتصحيح بعضه الآخر، لأنَّه يكتب بأدوات الباحث المحقِّق، الحريص على تجلية الحقيقة؛ وفق الرؤية اختارها واطمأنَّ إليها، بكل مافي ذلك من جلد وجهد. وحمزة غوث شخصيةٌ إشكاليةٌ بحكم الظروف التي واكبت مراحل حياته ومجرياتها، ومتغيرات السياسة وأحوالها، فقد عاصر(ثلاثة عهود سياسية) كانت المدينة المنورة مشهدًا لأنظمة الحُكْم فيها، وفي العمق منها، بل وأكثر مدن الحجاز تأثُّرًا بها، وهو مالم يتوقف الكاتب عند حدوده، بل جاوزه، وألمَّ بأجزاء من أحوال الأقطار والأقاليم الأخرى، التي شهدت بدايات القرن الرابع عشر الهجري فورة أزماتها السياسية، وتعدد منابر القرار والسيادة فيها، من حيث تلك الأقاليم والأقطار من مشاهد حضور حمزة غوث، وذات مساسٍ به في غير جانبٍ من جوانب حياته. وفي (حارة السَّاحة) غربي المسجد النبوي الشريف، وُلِدَ السيد حمزة في كنف أُسرة مدنيَّة ثرية، كان ربُّها يعمل في مهنة (الدِّلالة) وهي القيام على شؤون زوَّار المدينة المنورة من الحجاج، منذ ساعة قدومهم إليها، إلى حين مغادرتهم إياها، وللمهنة قواعد وأصول مرعيَّة، تنبئ عن مستوى من يقومون عليها من الناحية الاجتماعية والثقافية. وكان والده وجيهًا مدنيًّا يجتمع عنده الأعيان والأدباء والتجار، ومن (السَّاحة) ابتدأت حياة السيد حمزة..، على نحوٍ أفاض الكاتب في سرد تفاصيله ومنعرجاته ومنعطفاته. ومن هذه المحلَّة المدنية العتيقة، قادته أقداره إلى أمكنة شتَّى: الرياض، وحائل، والطائف، وسوريا، وتركيا، والعراق، والكويت، وإيران، وغيرها، جابها حمزة غوث ومكث غير بعيدٍ من حكَّامها ونُخبها السياسية، وارتفع اسمه وعلا شأنه في بعضها، وقارب في بعضها دائرة المنون، إلى أن انتهت رحلة حياته الثرية مطمئنًّا في مشهد مولده المدينة المنورة. وقد تتبَّع الكاتب سير حياة شخصيته بتقصٍ دقيقٍ لمراحلها كافة؛ من المدينة المنورة التي استهلَّ فيها نشاطه السياسي كما يصف السيف: (ثائرًا في المدينة) محفل صراع القوى المتنفذة آنذاك من العثمانيين، والأشراف ومن إليهم، ومن هم إليهم. وحال التبرُّم والسخط التي كانت المدينة وأهلها فيها. وكانت تلك هي التجربة الأولى التي خاضها في المعترك السياسي، وهو في سنِّ العشرين، تقاسمها في نفسه وكيانه مسؤوليةٌ أخرى، وهي (المحافظة على سلالة أسرته، فهو الوحيد الباقي من آل غوث في المدينة)، وقد قام بتلك المسؤولية خير قيام. فيما احتلَّ العمل السياسي جُلَّ حياته؛ (سياسيًا في العهد العثماني في المدينة، ومناوئًا للحكم الهاشمي في مكة، ومستشارًا سياسيًا في عهد إمارة آل رشيد في حائل، وأخيرًا في العهد السعودي، الذي توَّجه مستشارًا سياسيًا للمليك المؤسس، وسفيرًا فوق العادة) مما خاض المؤلِّف فيه، وتتبَّع بداياته وسياقاته ومآلاته، والاشكالات التي اعتورته، مُقاربًا بين الروايات والشهادات والرسائل، ومؤلِّفًا بين النقولات النصية، ومسائلًا عديد منها، وموازِنًا بين بعضها، وغير مُسلِّمٍ ببعضها الآخر، دون أن يختار لغة التَّسليم؛ إلا بعد النقاش والمراجعة والتمحيص. وكما كان حمزة غوث (سفيرًا فوق العادة) في إحدى مراحل حياته المهنية، وتجربته السياسية، فهو كذلك (شخصيةٌ فوق العادة)، بما عاصره من أحداث، وما خاضه من تجارب، وما حفلت به حياته من جوانب ومحطات؛ كان ابنه البارّ السيد خالد غوث قد أراد إبرازها وإضاءتها في كتابه: (من رجال المدينة المنورة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري السيد حمزة غوث)، ولكنه لم يُوفَّق إلى مراده كثيرًا، فابتسر -دون أن يعي أو يقصد- سيرة والده: الشخصية الوطنية العامة، التي تتجاوز مسؤولية العناية بها الدائرة العائلية، إلى الأفق الثقافي الأعم؛ بحكم طبيعتها وأدوارها وتأثيرها، وكونها جزءًا من تاريخ البلدة الطاهرة، وتاريخنا الوطني بعامة. حتى تصدَّى محمد السيف (المختص) لهذه المهمة الثقافية والمعرفية، بدأب وهمَّة واقتدار. وهو الذي وعى في كتابه هذا..أجزاء مهمة من تاريخ المدينة المنورة في العهود الثلاثة، من جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية، إلى الأدوار التي لعبها حمزة غوث في سياق العلاقات الدولية، بين المملكة وبعض دول الجوار، وماشهدته من تجاذبات. ومن ثمَّ فالكتاب يتجاوز الدائرة (الشخصية) الذاتية لموضوعه، إلى الفضاء الأوسع الذي تشكَّلت فيه تلك الشخصية، وتأثَّرت به، وتفاعلت مع أحواله ومتغيراته. (700) صفحة، تؤرِّخ لما يقرب من نحو قرن من الزمن، كانت المدينة المنورة مشهدًا لأبرز أحداثه، التي كان حمزة غوث على صلةٍ بها، وكان المحور الأهم والمحرِّك الأساس في بعضها. وحفل الكتاب بوثائق وصور ومكاتبات مهمة، تدعم موضوعاته وتسند أخباره، وتوضِّح كثيرًا من المراحل المفصلية في سيرة الشخصية/حمزة غوث، التي لم يكن صنيع المؤلف فيها؛ ربط أجزاء حياتها ونشاطها، أو نَظم مراحلها، بل دور الباحث المدقِّق في مضامين تلك السيرة الحياتية، والمصحِّح بعض ما كُتب حولها، ولا سيما وقد توفَّر له في أرشيف العائلة الغوثية، عديد من الوثائق والشهادات والمراسلات والصور، يعضِّده ويسنده ما تجشَّم البحث عنه في المراجع الأصيلة، والدوريات الصحفية التي عُنيت بتاريخ تلك الحقبة. تداخلًا واتِّساقًا وتكاملًا مع سيرة المكان/المدينة المنورة، الذي كان محفلًا لفتراتٍ مفصلية في حياة حمزة غوث، مثلما كان شاهدًا على التغير الجوهري في العهود السياسية خلال قرنٍ زمني، كان من أصعب الحقب التي مرت بها البلدة الطاهرة. ومما تميَّز به هذا الكتاب..دقة تبويب فصوله، والمنهجية الرصينة في ترتيبها، والصياغة الأدبية المتقنة لعناوينها، والمسحة الجمالية في صياغة مقدمات تلك الفصول، التي جاءت متوالية سردية مُحكمة الصَّوغ مترابطة البناء الأسلوبي، وبلغة وصفية بيانيَّة، لم تتدنَّى-مع طول الكتاب- إلى إنشائية فاترة، أو لغة صحفية مباشرة، بل ظلت محافظة على مستوىً من الحيوية والجزالة وترابط الموضوعات والأفكار، وترتيب النتائج على سياقاتها الموضوعية ومقدماتها الحدثية، آخذةً بالحسبان الترتيب الزمني لمراحل حياة الشخصية، والمتغيرات التي طرأت عليها، والأقدار التي انقادت لها.