عبدالجبار اليحيا ودور الفن ( 2 / 1)

هناك علاقة طردية بين ثقافة وحضارة الشعوب، ومراحل تطور ورقيّ الفنون فيها. والمتابع لمسيرة عبدالجبار اليحيا الفنية والأدبية يلاحظ تركيزه على أهمية دور الفنون وأثرها الإيجابي في المجتمع وبالأخص نشاطه المستمر في مجال الفن التشكيلي. حيث “تُساهم الفنون في خلق جوّ اجتماعيّ إيجابيّ يسوده الترابط والتآلف بين أفراد المجتمع. وتُشعرهم بمزيد من الفخر والانتماء لمجتمعهم”(1) واكتشاف أفكار مختلفة تحفز على الإبداع واتساع الأفق. كما إنها تساهم في الحفاظ على تاريخ وتراث المجتمع وترسيخ هويته الثقافية والاعتزاز بها. وعلى الرغم من اهتمام عبدالجبار اليحيا بالفنون قاطبة اختص بالفن التشكيلي، وبرأيه “ينبغي - بالضرورة - أن يكون الفن هادفا وعقلانيا وليس مجرد لوحة تجميلية تعلق على جدار فحسب”.(2) ويُرجع الفن التشكيلي على أنه الصورة الأولى للفكرة قبل تنفيذها على أرض الواقع، بل كل ما يتخيله الإنسان وما يفكر فيه من خط ولون بهدف الصناعة والابتكار، فيذكر في إحدى الندوات: “هو تصور أوليّ لأفكار المصمم والمهندس والمخترع والنجار أنه الخطوط والألوان والمساحات المتمثلة في الذهن أنه شكل هيكل الطائرة قبل أن تصبح طائرة وفي شكل السيارة في طراز الملابس وألوانها في شكل إناء فخاري أو بلاستيكي نجده في الطباعة والسينما والمسرح، نجده في التعليم ووسائل الإيضاح وتربية الذوق والتذوق وعلم الجمال.”(2) فحينما نتأمل لوحة المسيرة والرجل بثوبه البنيّ سامقا فوق سماء اللوحة والأمواج دوامة تحت قدميه وهو على ثبات واتزان المتمكن بمهارة عالية، مما يدل على ثقة وسيطرة وإتقان ركوب الموج، ما يسعني إلا أن أشعر بأن الأرض تحت قدميّ تغدو أكثر صلابة مما هي عليه. قيادة فذّة بيد ممتدة إلى أفق غائب عن اللوحة وبؤرتها. واليد الأخرى ممتدة براحةٍ وارتخاء مطمئِنة بهدلها. كيف لا ينتابني شعور بالثقة والفخر في آن واحد؟ علما بأنه رسم اللوحة عام 1983 وعرضها في معرضه الرابع، ويذكر في إحدى لقاءاته الصحفية آنذاك: “إنني أحاول أن أعطي الجمهور فكرة عن مشاركته في بناء حياته، ومن ثم بناء المجتمع عن طريق مشاركاته مع إخوانه فيما يفيد الأخرين. والوسيلة الوحيدة للفنان لإبراز أفكاره هي المعرض... ولم أكن منقطعا في هذه السنوات... بل كنت أستغرق في هضم هذه الفترة السابقة للخروج بشيء جديد.”(5) وإن كان يترحم على أيام البطحاء ومحلات الرسم في السبعينيات بقوله: “رحم الله أيام البطحاء ومكتباتها وألوانها الزيتية والمائية الرديئة الصنع. أين نحن الآن من أيام زمان؟ كانت النقود الورقية تخلو من الصورة وكذلك جواز المرأة! ... وكان ... وكان.”(2) فماذا سيقول الآن رحمه الله، عندما تتفوق الخدمات والأنشطة والفعاليات الثقافية في القطاع العام على القطاع الخاص لتصبح معيار الجودة الذي نحتذي به؟ هل هي رؤية استشرافية أم الواقعية الحديثة الذي كان يذكرها في مقالاته؟ “امتدادي واقعي حديث لكنها واقعية مستقبلية تتعامل مع الواقع كما يتصوره الفنان ليس الواقع التسجيلي وإنما الواقع الذي ننشده.”(6) وفي مقالة اخرى يذكر: “مهمة الرسام هي نشر رسالة. الفنان الحقيقي يرى ما هو أبعد من وقته.”(7) ولو تمعنّا بالخطوط والمساحات اللونية ودلالاتها الحركية والرمزية نلاحظ تمكن الرجل من تسيير الدوامة بلون ثوبه البنيّ تحت قدمه اليمنى بتلقائية وثقة المتمكن ليزيح الدكنة من أمامه بحركته الانسيابية ويكشف بعون القدير عن سماءٍ أكثر صفاء وإشراقا لمستقبل جيلِ تكاد تكتمل حدود معالمه. رؤية ملحمية للإنسان فعلاً كما ذكر “انني أحاول أن أعطي اللوحة جوا ملحميا يدفع جمهور المعرض إلى تفحص فحينما نتأمل لوحة المسيرة والرجل بثوبه البنيّ سامقا فوق سماء اللوحة والأمواج دوامة تحت قدميه وهو على ثبات واتزان المتمكن بمهارة عالية، مما يدل على ثقة وسيطرة وإتقان ركوب الموج، ما يسعني إلا أن أشعر بأن الأرض تحت قدميّ تغدو أكثر صلابة مما هي عليه. قيادة فذّة بيد ممتدة إلى أفق غائب عن اللوحة وبؤرتها. واليد الأخرى ممتدة براحةٍ وارتخاء مطمئِنة بهدلها. كيف لا ينتابني شعور بالثقة والفخر في آن واحد؟ علما بأنه رسم اللوحة عام 1983 وعرضها في معرضه الرابع، ويذكر في إحدى لقاءاته الصحفية آنذاك: “إنني أحاول أن أعطي الجمهور فكرة عن مشاركته في بناء حياته، ومن ثم بناء المجتمع عن طريق مشاركاته مع إخوانه فيما يفيد الأخرين. والوسيلة الوحيدة للفنان لإبراز أفكاره هي المعرض... ولم أكن منقطعا في هذه السنوات... بل كنت أستغرق في هضم هذه الفترة السابقة للخروج بشيء جديد.”(5) وإن كان يترحم على أيام البطحاء ومحلات الرسم في السبعينيات بقوله: “رحم الله أيام البطحاء ومكتباتها وألوانها الزيتية والمائية الرديئة الصنع. أين نحن الآن من أيام زمان؟ كانت النقود الورقية تخلو من الصورة وكذلك جواز المرأة! ... وكان ... وكان.”(2) فماذا سيقول الآن رحمه الله، عندما تتفوق الخدمات والأنشطة والفعاليات الثقافية في القطاع العام على القطاع الخاص لتصبح معيار الجودة الذي نحتذي به؟ هل هي رؤية استشرافية أم الواقعية الحديثة الذي كان يذكرها في مقالاته؟ “امتدادي واقعي حديث لكنها واقعية مستقبلية تتعامل مع الواقع كما يتصوره الفنان ليس الواقع التسجيلي وإنما الواقع الذي ننشده.”(6) وفي مقالة اخرى يذكر: “مهمة الرسام هي نشر رسالة. الفنان الحقيقي يرى ما هو أبعد من وقته.”(7) ولو تمعنّا بالخطوط والمساحات اللونية ودلالاتها الحركية والرمزية نلاحظ تمكن الرجل من تسيير الدوامة بلون ثوبه البنيّ تحت قدمه اليمنى بتلقائية وثقة المتمكن ليزيح الدكنة من أمامه بحركته الانسيابية ويكشف بعون القدير عن سماءٍ أكثر صفاء وإشراقا لمستقبل جيلِ تكاد تكتمل حدود معالمه. رؤية ملحمية للإنسان فعلاً كما ذكر “انني أحاول أن أعطي اللوحة جوا ملحميا يدفع جمهور المعرض إلى تفحص الأعمال وتذوقها ثم مناقشتها.. إنني لا أريد أن أقدم فكرة على (طبق جاهز) فإنني أريد استعمال التكوين والخطوط المتداخلة في إبراز الفكرة بانسجام مع اللون ووحدة التشكيل.. بل إنه لابد من طرح الفكرة الرمزية بأسلوب واقعي حتى تقنع المشاهد لمعرضك”.(5) هذه لوحة المسيرة رسمت في أوائل الثمانينيات قبل الألفية الثانية، وما زالت تحاكي واقعا مسترسلاً وأمواجاً من الزمن مُنسابة، مزجت بين “الذاتي والجماعي”.. “الخاص والعام”.. “الاجتماعي والكوني”. فهي مسيرة بني آدم.. مسيرة مجتمعنا بقياداتها.. مسيرة العائلة بأفرادها. وهذه الرؤية لم تكن غائبة عن الأستاذ السيد الجزايرلي بتحليله لمسيرة عبالجبار اليحيا الفنية والشخصية حيث يقول فيه: “يحاول أن يقدم تجربته في أطار معادلة التوجه الإنساني.. الذي يجمع الأضداد والمختلفات في سياق جمالي واحد.. وينثرها عبر فضاء تشكيلي رحب.. يزاوج بين الخاص والعام.. الذاتي والجماعي.. الاجتماعي والكوني.. ومع أن هذا التوجه الذي يعتمد الاهتمام والانشغال بكل ما هو إنساني ومثالي وفكري.. ليس مقصورا – فقط – على تجربة اليحيا التشكيلية.. إلا أن الذي يحسب لهذا الفنان السعودي العربي.. أنه شديد الارتباط بهويته وتاريخه وموروثه.. وفي حين ان المتأثرين بالفكر الفني الغربي.. يجدون صعوبة في إقصاء العوامل التأثيرية التي تغلغلت في فكرهم، ونضحت على فكر لوحاتهم.. بقي هو – مع قلة آخرين – محافظا على مكونات هويته.. لأن أعماله لم ترتكز على التغريب والإلغاز.. حتى في اعتماده على فكر ((التجريد)) المعروف بتعقيداته اللونية والدلالية..”(3) وما تفردت وحدي باستخدام الصفة الاستشرافية لأعمال عبدالجبار اليحيا، حيث نوّه عنها – ايضا - الأستاذ كمال حمدي في كتاباته النقدية، فيبين في مقالته ((للفرح بعض طقوس الحزن)) الصفة الاستشرافية للفنان ويتساءل في مقالة أخرى ((يصرخ النخيل)) “هل كان الفنان يتشوف من سياق سياسي يجري وبشفافية غير عادية وبصيرة نافذة حادة؟” – وهذا في سياق تحليله للوحة ((يصرخ النخيل)) - فيستطرد في نفس المقالة؛ “اليس هذا يعطي للفن قيمة أكبر من مجرد تصنيفه داخل مربعات المصطلحات ووصفه – ولو بانتصار له – بأن فن طالع من شعور بالانتماء؟!!”.(8) وعلى هذا النحو أدرج لوحة تحولات تحت تصنيف اللوحات الاستشرافية لأختم الجزء الأول من المقالة بقراءة أولية لعناصر اللوحة؛ مع احتضان اليدين للأفق شمسا غامضةَ بلونها البنفسجي والبحر الهادئ بصفائه، ينساق النظر إليهما مطواعاً ليترقب المشهد. النقيضان والمكملان لبعضهما في سنة الحياة يهيمنان على اللوحة من جميع جوانبها ومفرداتها؛ بين اليمين واليسار في المذكر والمؤنث، وبين العلوي والسفلي في الملموس والمجرد. وهنا يوازن عبدالجبار اليحيا المساحتين العلوية والسفلى في الحوار بين العقل المادي وحذره، برسمه هاوية السفح - أعلى اللوحة - والدافع الوجداني للسعي قُدما باللونين ألأزرق والوردي متفائلاً – أسفل اللوحة -. وبعيون كأنها نوافذ وفاه مفتوح ينادي الجهة الأخرى، هل هو سجين أحلامه الوردية؟ وهي على الضفة الأخرى، من على جدار البيت تطل برأسها للمنادي، هل كانت حبيسة جدرانها الملونة بالأزرق والأصفر والأخضر والبني؟ والغريزة الإنسان تتحول يده بعد مرورها عبر الشيخ المسّن، بلون الطين تكوّن، فتمتد إلى لحظة التقاء اليدين تحتضن الأفق. وعلى هذا النحو أدرج لوحة تحولات تحت تصنيف اللوحات الاستشرافية لأختم الجزء الأول من المقالة بقراءة أولية لعناصر اللوحة؛ مع احتضان اليدين للأفق شمسا غامضةَ بلونها البنفسجي والبحر الهادئ بصفائه، ينساق النظر إليهما مطواعاً ليترقب المشهد. النقيضان والمكملان لبعضهما في سنة الحياة يهيمنان على اللوحة من جميع جوانبها ومفرداتها؛ بين اليمين واليسار في المذكر والمؤنث، وبين العلوي والسفلي في الملموس والمجرد. وهنا يوازن عبدالجبار اليحيا المساحتين العلوية والسفلى في الحوار بين العقل المادي وحذره، برسمه هاوية السفح - أعلى اللوحة - والدافع الوجداني للسعي قُدما باللونين ألأزرق والوردي متفائلاً – أسفل اللوحة -. وبعيون كأنها نوافذ وفاه مفتوح ينادي الجهة الأخرى، هل هو سجين أحلامه الوردية؟ وهي على الضفة الأخرى، من على جدار البيت تطل برأسها للمنادي، هل كانت حبيسة جدرانها الملونة بالأزرق والأصفر والأخضر والبني؟ والغريزة الإنسان تتحول يده بعد مرورها عبر الشيخ المسّن، بلون الطين تكوّن، فتمتد إلى لحظة التقاء اليدين تحتضن الأفق. لوحة تحولات رسمت عام 1983 وعرضت في نفس معرضه الرابع. يتبين من واقع نعيشه بأن البحر الهادئ بصفائه هي من صفات مجتمعنا بقيادته الحكيمة. طيب الله ثراه، فناننا عبدالجبار اليحيا. المراجع .......................................................................... 1 - إيمان شماسنة، الفن ودوره في المجتمع، الرئيسية / منوعات فنية / الفن ودوره في المجتمع، https://mawdoo3.com آخر تحديث 18 يوليو 2022 2 - عبدالجبار اليحيا، “أفاق المستقبل (الثقافة والفنون) وما يتوقع للفنون التشكيلية من تطورات وما قد يعوق هذه التطورات”، ورقة مقدمة للمشاركة في ندوة “مستقبل الثقافة في البلاد العربية”، في مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض، 21-26 أكتوبر 2000 3 - السيد الجزايرلي، البعد الإنساني في لوحات عبدالجبار اليحيا، مجلة البارز، بدون تاريخ 4 - عبدالجبار اليحيا، مجلة بروز، مارس 2001، العدد 19 5 - عبدالجباراليحيى فنان سعودي يتعامل بالألوان الساخنة - الصحيفة غير معرفة، بدون تاريخ 6 - عبدالجبار اليحيا، فنانون الخليج التشكيليون في معرضهم الثامن بالقاهرة - المجلة، 23 سبتمبر 1986، العدد 345 7 - عبدالجبار اليحيا، عالم من الرمزية - إرينا روبرتسون - سعودي جازيت،  20 نوفمبر 1985 8 - كمال حمدي، يصرخ النخيل، صحيفة الرياض، 22 أغسطس 1991