
في عالم الإدارة والقيادة، لا يمكن اختزال القدوة في شخصية واحدة أو تجربة بعينها، القادة الحقيقيون يدركون أن النموذج القيادي الناجح ليس نسخة جامدة من شخص أو مرحلة، بل بناء ذهني يتطور باستمرار، يتشكل من تراكم التجارب، وتنوع الشخصيات، وتغير الأدوات، فالممارسات التي نجحت بالأمس قد لا تصلح اليوم، ليس لأن قيمها فقدت صلاحيتها، بل لأن البيئة المحيطة بها تغيرت جذرياً، ومن هنا، تصبح القدرة على تحديث النموذج القيادي باستمرار شرطاً أساساً للاستمرار في التأثير. وسط هذا الفهم المتجدد للقدوة، يبرز الدكتور غازي القصيبي كأحد النماذج العربية القليلة التي جسّدت هذا الفكر في بيئة عمل حكومية تقليدية، القصيبي لم يكن قائداً نظرياً، بل مسؤولاً أدرك تعقيدات بيئة عمله، وتعامل معها بواقعية لا تخلو من الحسم، تميّز القصيبي بقدرته على موازنة البراغماتية بالوضوح القيمي، لم يتردد في مواجهة التشدد الديني الذي كان يخنق روح المؤسسات، رغم إدراكه التام أن موقفاً كهذا سيكلفه على المستوى الشخصي والاجتماعي، لكنه كان يدرك أن حياد القائد في مثل هذه اللحظات إخلال بالواجب القيادي، وأن حماية كفاءة المؤسسة أهم من حماية الموقع الشخصي. هذه القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، بعيداً عن حسابات الرضا الشعبي أو الشخصي، تمثل أحد أهم دروس القيادة العملية، لكن هل يعني هذا أن نستنسخ تجربته بالكامل؟ إحدى الإشكالات الكبرى في ممارسات القيادة اليوم هي الارتهان المفرط لتجارب الماضي، لا شك أن قراءة التجارب السابقة تمنح القائد خبرة مهمة، لكنها تتحول إلى عبء إذا أصبحت مرجعه الوحيد في اتخاذ القرار، العالم الإداري الحديث يفرض على القادة أدوات وأساليب لم تكن موجودة في زمن من سبقوهم، التحليل الرقمي، الذكاء الصناعي، ونظم الأداء الحديثة، كلها أدوات تعيد تعريف الكفاءة، وتجبر القائد على مراجعة طريقته في القيادة باستمرار، إن القائد الذي يكتفي بتكرار ما فعله من سبقوه، دون أن يعيد اختباره في ضوء معطيات العصر، يفقد بمرور الوقت صلاحيته وتأثيره. ورغم كل ما سبق من أدوات وأساليب، تبقى الفلسفة عنصراً أساساً في بناء القائد الحقيقي، ليست الفلسفة هنا ترفاً ذهنياً أو انشغالاً بأسئلة وجودية، بل هي القدرة على النظر أبعد من الأرقام والنتائج اللحظية، لفهم الغايات الكبرى التي يقود من أجلها الفريق. القائد الفلسفي لا يكتفي بتحقيق الهدف، بل يسأل نفسه: لماذا هذا الهدف؟ وما أثره على المنظمة والناس والمجتمع؟ هذه الأسئلة ليست نظرية، بل هي ما يمنح القائد وضوحاً في الرؤية وثباتاً في الأزمات، كما تمنح الفلسفة القائد فهماً أعمق للإنسان الذي يقوده، وتدفعه لبناء فرق عمل لا تتحرك فقط بالحوافز المالية أو التعليمات الصارمة، بل بمعنى واضح ومشترك يدفع الجميع نحو غاية واحدة. هذا بافتراض سلامة الفلسفة نفسها من المبالغة في التنظير. فكثير من القادة اليوم يجيدون الحديث عن القيادة أكثر من ممارستها، تمتلئ الخطابات والورش والمقالات بمصطلحات ملهمة، لكنها تغيب عندما تحين لحظة اتخاذ القرار الحقيقي. القيادة ليست خطابة، ولا ترديداً لمقولات مشهورة، بل مسؤولية ثقيلة تتطلب شجاعة في الموقف، ومرونة في الوسائل، ووضوحاً في الهدف. الخلاصة: إذا أردنا أن نبني نماذج قيادية مؤثرة في واقعنا، فعلينا أن نعيد تعريف القدوة كفكرة متجددة، لا كنسخة مكررة، وعلينا أن نستلهم من شخصيات مثل غازي القصيبي ليس فقط مواقفهم، بل طريقتهم في التفكير: كيف صنعوا قراراتهم، وكيف واجهوا تحدياتهم، وكيف حافظوا على قدرتهم على التجدد رغم ضغوط بيئتهم، فالقائد الفاعل هو الذي يوازن بين حكمة التجربة وحداثة الوسيلة، بين حسم القرار وعمق المعنى، وبين العمل من أجل الأهداف، والعمل من أجل الإنسان. *مستشار موارد بشرية