فيلم القشة الأخيرة ..

الإرث الثقافي والذاكرة الجماعية كأدوات في يد الفنان .

" إذ استيقظ غريغور سامسا ذات صباح، على اثر احلام سادها الإضطراب، وجد أنه تحول، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة ، كان مستلقيا على ظهره، الصلب مثلما درع..." هكذا بدأ كافكا روايته، التحول أو المسخ في اسمها الآخر، وهكذا كان أيضا )STRAW مشهد البداية في فيلم (القشة الأخيرة وهو فيلم دراما نفسية كافكوي بإمتياز، يلخص كيف يتم سحق الإنسان الحديث، الذى يترك وحيدا، في مواجهة عالم لا يرحم، يسحق بشريته، والمأساة أن يشارك من يفترض أن يكونوا مساندين لهذا الإنسان في سحقه، ورغم أن الفيلم انتهى بإكتشاف أن كل ما حدث كان نتيجة هلاوس نتيجة صدمة نفسية، وهو ما منحه بعد آخر. فيلم القشة الأخيرة يذكر المشاهد بفيلم آخر، يقدم ذات الموضوع، بصيغة مختلفة قليلا، وبطريقة تم الإشتغال عليها فنيا بشكل اكبر اعني فيلم الجوكر، الجزء الثاني تحديدا، وهذا مأخذي على فيلم القشة الأخيرة. حيث لم نرى اشتغالا حقيقيا من (تايلر بيري) والذى كان هو المخرج والمنتج وكاتب السيناريو، يرفع مستوى الفيلم فنيا، وكذلك لم نرى أداءا يستحق التوقف عنده من بقية الممثلين حيث التمثيل المفتعل، أو حتى على مستوى الصورة، حيث شعرت أننا نشاهد فيلما صور بكاميرا جهاز هاتف متنقل، وليست كاميرا سينمائية. Taraji Penda Hensonوما جعلني اكتب المقالة ليس الفيلم بحث ذاته، بل الأداء القوي الذى قدمته الفنانة تاراجي بيندا هينسون والذى يكشف كيف أن الخلفية الثقافية والإجتماعية، والذاكرة الجمعية، اداة قوية جدا لدى الفنان، اذا استوعبها، ووظفها ضمن الشخصية التي يؤديها، والتي سنتقله من كونه مؤدي دور في عمل فني، إلى مجسد فعلي لكل ما تختزنه تلك الثقافة والذاكرة من مخزون متراكم يظهر تلقائيا اثناء تقمص الشخصية، بطريقة لا يحتاج فيها الفنان أن يمثل أنه يمثل على المشاهد. واذا ما عرفنا مفهوم الذاكرة الجمعية فهو يشير إلى تراكم مشترك للمعرفة والمعلومات والذكريات، داخل مجموعة اجتماعية معينة بغض النظر عن حجمها، وهي ليست مجرد مجموعة ذكريات افراد، بل نتاج للتفاعلات الإجتماعية، داخل وخارج الجماعة، والخبرات المشتركة التي تشكل وعي المجموعة، وتؤثر على كيفية فهمها للماضي، الحاضر، والمستقبل. وهي ليست تاريخ مكتوب لحدث معين، بل تعنى بكيفية تذكر الجماعة للأحداث مع تفسيرها لها، والمشاعر المتراكمة المصاحبة لها، ولها دور مهم في تشكيل هوية افراد الجماعة. في لقاء مع الفنان الكبير دينزل واشنطن، تحدث فيه عن فيليمين: (قائمة شاندلر) للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وفيلم المخرج مارتن سكورسيزي Goodfellas، وكانت مناسبة الحديث سؤال وجه إليه عن أحد افلامه، وسبب كون المخرج والممثلين فيه من السود، فكانت اجابته، بالعمق المعهود: انه ليس اللون بل الثقافة. ثم شرح الأمر، بأن كل من المخرجين كان قادرا على تقديم فيلم المخرج الآخر بطريقة جيدة، لكنه لم يكن ليقدمه بالطريقة العظيمة ذاتها التي قدم فيها كل منهما فيلمه. فالثقافة المرجعية، أو كما اسماها (نورمان فيركلفت) في كتابة: (اللغة والسلطة)، ب موارد الأعضاء، التي يمتلكها كل من سبيلبرغ عن المجتمع اليهودي كونه يهودي، وكذلك سيكورسيزي عن المجتمع الإيطالي كونه من اصول ايطالية، تجعله ملما بشكل دقيق، بالتفاصيل العميقة لهذا المجتمع، كمشاعر، علاقات، قيم، طرق تواصل خاصة، هواجس فردية وجماعية. وهذا كله امتلكته الفنانة تاراجي بيندا هينسون، في فيلم القشة الأخيرة، وقدمته ببراعة فائقة، كونها تاتي من مجتمع السود في امريكا، محملة بكل تلك الثقافة الإجتماعية التاريخية، التي تمتلكها المجتمع الأسود، عن الإضطهاد، البؤس، الفقر، العنصرية، قلة الحيلة امام المؤسسة Establishment، وهياكلها والضغط التي تمارسه ضد الجماعة، ورغم أن الفيلم قدم الشخصيات الرئيسية جميعها من السود، ليعلن أن الفيلم لا يتعلق بالعنصرية تجاه اللون، بقدر ما يتعلق الإضطهاد والضغط الذى يمارس ضد الإنسان كذات، مع التركيز على ذلك الضغط تجاه المرأة السوداء، كونه ضغط مضاعف، فهي تاتي من المجتمع الأفقر في امريكا، والأكثر بطالة، فكيف اذا كانت أم وحيدة، وكيف اذا كان ذلك الضغط يأتي عليها من داخل مجتمعها ايضا، وهذه دلالة اختيار مديرها في العمل، أو مسؤولة الرعاية الإجتماعية، ومدرسة طفلتها وموظفات البنك من ذات لون البشرة في الفيلم، وكأننا امام الثنائية الشهيرة داخل المجتمع الامريكي الأسود، عن زنجي الحقل وزنجي المنزل مع استبداله في السياق الحديث بزنجي (المؤسسة).