فيلم مجتمع الثلج ..

تأملات في الإرادة البشرية

يرى فرويد أن الإنسان يتأرجح طوال حياته ما بين غريزتي البقاء والموت، وهي قوة دافعة أساسية في السلوك البشري تهدف إلى الحفاظ على الحياة سواء للفرد أو للنوع، وقد يجد المرء في نفسه في لحظة تشبثه بالحياة وفزعه من الموت، إنساناً آخر يبحث عن النجاة بأي شكل وبأية طريقة، بعيداً عن كل الأخلاقيات التي كان متمسكاً بها قبل ذلك، فلا شيء يصمد في حضرة الموت! طرحت الكثير من الأفلام قصص النجاة من الكوارث الطبيعية أو الضياع في جزر بعيدة، والفيلم الأسباني "مجتمع الثلج" واحد من أهم الأفلام التي أنتجت مؤخراً في ذات السياق، وهو مأخوذ عن كتاب " بابلو فيرسي" والذي يروي القصة الحقيقية لسقوط طائرة تحمل فريق من لاعبي الرجبي وعدداً من أصدقائهم إلى التشيلي، لكن الطائرة تسقط في جبال الأنديز الجليدية، لتتجمد كل الأحلام التي كان يحملها ركاب الطائرة بقضاء إجازة سعيدة وتتحول إلى كابوس. لحظة مريعة هي لحظة الخروج من الحياة الحالمة إلى الصمت والعتمة والجليد، فلا شيء هناك سوى موت يتربص وبرد قارص لا يمكن لأي كائن التعايش معه، لكن الحياة وهبت نفسها من جديد لعدد من الركاب بعد أن فقدوا الأمل تماماً في العودة إلى الدفء والعائلة والوطن. بعد تحطم الطائرة ووفاة عدد من الركاب، ومواجهة هذا الفزع الوجودي يضطر الناجون إلى مواجهة ظروف قاسية للغاية في قلب الجبال المغطاة بالثلوج، بما في ذلك البرد القارس و نقص الطعام، والعزلة التامة عن العالم، وهنا تتعرى الإنسانية ولا يبقى من الإنسان سوى جانبه الغريزي الذي يسعى للنجاة أو البقاء أياً كانت الوسيلة لذلك. ففي مشهد من أقسى وأهم مشاهد الفيلم يتخذ البعض قرارات صادمة للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك أكل لحوم من توفوا في الحادث، مسبقاً وقد تناول الفيلم هذه الفكرة بذكاء وبدون استغلال درامي، فبدلاً من إثارة الاشمئزاز أو إصدار الأحكام، يطرح الفيلم هذا القرار كفعل مؤلم اضطراري تتداخل فيه الرغبة في البقاء مع الشعور بالذنب والرهبة، و لم يعالج الفيلم هذا الجانب بغرض الصدمة، بل قدّمه كخيار وجودي مأساوي، طرح من خلاله سؤالًا كبيرًا: ما الذي يجعلنا بشرًا عندما تنهار كل القواعد؟ وبالرغم من مأساوية الحدث فإن الفيلم يركز على قوة الروح الإنسانية والصداقة، والتضحية، والإيمان بالحياة، فالموت في تلك اللحظة بدا لبعضهم أكثر نقاءً، أما البقاء على قيد الحياة فكان يتطلب خيانة الجسد والروح عبر فعل لا يُغتفر أخلاقيًا لدى الكثيرين، وهو أكل لحوم الأصدقاء الموتى، و هنا يتحول البقاء من غريزة إلى عبء أخلاقي. حتى عندما ينج الناجون أخيرًا لا نشعر بالانتصار الكامل، وكأن هناك صمت طويل في وجوههم أو شيء من التمزق، أوتساؤل في أعماق كل منهم يقول: هل نحن أحياء حقاً أم أن جزءًا منا باق هناك و إلى الأبد! تم ترشيح الفيلم لجائزة أفضل فيلم دولي في حفل الأوسكار 2024 عن إسبانيا، كما حصل على إشادة نقدية كبيرة، خصوصاً لأداء الممثلين والإخراج المؤثر، و كتجربة سينمائية مبهرة ومؤلمة في آنٍ واحد أعيد من خلالها تجسيد واحدة من أكثر قصص النجاة واقعية وقسوة في التاريخ الحديث. طرح سينمائي لا يروّج للبطولة بل يكرّم الإنسان، و ما يميز الفيلم أنه لم يسعى إلى تأليه الناجين أو تصويرهم كأبطال خارقين بل عاملهم كأشخاص عاديين واجهوا مأساة غير عادية. وفي قلب الثلوج القاسية والعزلة التامة تبرز أسئلة عميقة عن الغريزة و الإيمان، والمعنى الأخلاقي للنجاة، كما يقدم الفيلم رؤيته عبر عدسة إنسانية تقترب من الشخصيات دون إطلاق أحكام، بالإضافة إلى الصدق البصري والموسيقى الصامتة. اختار "بايونا" واقعية شبه وثائقية فابتعد عن البهرجة الهوليودية لصالح حقيقة الصورة و واقعيتها ليعكس جليد المكان وبرودة الفقد. وقد تم التصوير في مواقع حقيقية بجبال الأنديز مما منح الفيلم قوة حسية، بينما جاءت الموسيقى متناثرة ومتواضعة تاركة للصمت أن يروي المعاناة بأداء تمثيلي ينبض بالواقعية، حيث اعتمد المخرج في آداء الأدوار على ممثلين غير مشهورين إلى حد كبير مما أضاف مصداقية للرواية، فلا نرى نجوماً يؤدون أدوار نجاة بل شباناً عاديين نعيش معهم الجوع والخوف والتساؤلات الأخلاقية العميقة بأداء تمثيلي جاء مكثفاً ومعبّراً دون أي افتعال، ليحوّل المأساة إلى تأمل إنساني مؤلم في معنى الحياة وحدود الغريزة والأخلاق عند حافة الموت. ويطرح الفيلم الكثير من التساؤلات الكبيرة: فما الذي يبقي الإنسان إنسانًا في مواجهة الفناء حين ينهار العالم الاجتماعي المعتاد وتبدأ النجاة في التحول إلى مشروع فردي وجماعي على السواء؟ فالموت لم يعد احتمالاً بل صار حقيقة يومية تتطلب مواجهة متكررة! في واحد من مشاهد محاولات البحث عن أمل للخروج من صحراء الصقيع هذه، يجلس مجموعة من الناجين بينما يأكلون ويشربون ويتبادلون النكات، فيقرر أحدهم التقاط صورة فوتوغرافية بكاميرته، صورة عبثية لا غاية لها مجرد إضافة إلى ألبوم من الذكريات المؤجلة، أو اقتناص لحظة واحدة حقيقية للغاية وصادقة في كل هذا الخراب، وعندما يبدأ الجميع بالاستعداد لالتقاط الصورة، ينتبه أحدهم لوجود بقايا جثة كانوا يتغذون عليها قبل قليل فيقوم بتغطيتها فوراً، في مشهد مؤلم ومفزع وحزين، وهي لحظة صدام بين نظرة الآخر وواقع البقاء، و محاولة لحماية الكرامة من نظرة المجتمع، وكأن هذه اللحظة تُعبّر عن الخوف من الوصمة، أو من اختزالهم في آكلي لحوم بشر، الصورة توثق النجاة لكنها لا توثق المعاناة.. وتغطية الجثة و كأنه فعل دفاع صامت عن إنسانية لم تَمت بعد! الفيلم عمل إنساني مؤلم عن هشاشة الإنسان، وعن مجتمع صغير في قلب الثلج صاغته الكارثة، فحوّلته إلى مرآة للوجود، بإخراج ناضج للمخرج "خوان أنطونيو بايونا"، و أداء صادق وبنية سردية تحترم القصة الحقيقية دون أن تبتذلها، وهو فيلم يستحق المشاهدة لا من أجل الترفيه بل من أجل التفكير.