عن كتاب الصحفية الامريكية « كارين هاوس» ..
قراءة في مسيرة الأمير الذي صنع التحول السعودي.

في عالم تسيطر عليه الصور النمطية والتقارير المختزلة يظهر كتاب (الرجل الذي سيغدو ملكاً) للمؤلفة والصحافية الأميركية كارين إليوت هاوس كاستثناء حاد ومختلف. ليس لأنه يروي قصة ولي عهد سعودي يتأهب للعرش بل لأنه يُعيد كتابة المفهوم ذاته: كيف يصنع رجلٌ دولة، لا كيف تصنع الدولة رجلاً.. ففي يوليو 2025 صدرت في العاصمة واشنطن كتاب لرواية سياسية تحوّلت سريعًا إلى نقطة محورية في النقاشات حول الشرق الأوسط وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: كتاب (الرجل الذي سيغدو ملكاً ) للكاتبة الأميركية كارين إليوت هاوس .لم يكن صدور الكتاب حدثًا عاديًا بل لحظة احتلت حيزًا إعلاميًا وفكريًا متزامنًا مع تحولات سياسية عديدة داخل السعودية والمنطقة وصدر عن دار نشر (HarperCollins Publishers) ومقرها نيويورك الولايات المتحدة وهي من أكبر دور النشر في العالم وتُعرف بإصدار مقالات سياسية أدبية أكاديمية وسِيَر شخصية بارزة حيث اختارت هذا العمل كواحد من أكثر الإصدارات التي تمثل محاولة غربية لفهم شخصية ملكية ذات حضور مبهر ومؤثر في الشرق الأوسط والعالم وقامت كارين إليوت هاوس وهي كاتبة وصحفية مخضرمة في مجال التحليل السياسي و عرفت بتغطيتها العميقة للشؤون الشرق أوسطية منذ أكثر من عقدين وخصوصًا ملف السعودية بجمع معلومات من مصادر مفتوحة ولم تكتفِ هاوس بهذا بل خاضت تحقيقات ميدانية ومقابلات مع شخصيات بارزة داخل الرياض وخارجها في محاولة لرسم لوحة معقدة ودقيقة تعكس في الوقت نفسه الرؤية الأميركية والواقع السعودي. الكتاب استغرق إعداده أكثر من ثلاث سنوات وشمل جولات متكررة إلى السعودية ودول الجوار فضلًا عن مقابلات مع محللين غربيين وعرب ومنهم بعض الذين عايشوا عن قرب الأمير شخصيًا. يُقال إن بعض تفاصيل الكتاب جاءت نتيجة لقاءات سرية مع أعضاء في الديوان الملكي ما أضفى على النص ثقلًا معلوماتيًا ورؤية داخلية نادرة. أمضت الكاتبة هاوس أربعة عقود في مراقبة المجتمع السعودي تنقلت خلالها من جدران وول ستريت جورنال إلى بلاط كبار الساسة السعوديين. لكن هذا الكتاب الذي اعتمد على ست مقابلات مباشرة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ليس وثيقة صحافية باردة. بل هو أقرب إلى محاولة لفهم كيف يتحوّل شاب ثلاثيني نشأ في قصر الملك سلمان إلى قائد متفرد يضع يده على مفاتيح القرارات الكبرى في المنطقة. يتناول الكتاب محطات رئيسية في حياة ولي العهد من بداياته الأولى مرورًا بمشروع رؤية 2030 الذي يعد نقطة التحول الاستراتيجية في السعودية وصولاً إلى تفاصيل الصراعات السياسية الداخلية والخارجية التي شكلت مسيرته. تقول في سياق الكتاب «إنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة دون ملاحظات أنه أشبه برجل دولة أكثر من كونه أميرًا.» وهي هنا وهي لا تصف بذلك قدرته اللغوية فقط بل تحيل إلى ما هو أعمق: « حضوره السياسي الناضج وثقته الطبيعية واستعداده الدائم للتحدّي. ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هنا لا يتحدث فحسب بل يُؤدّي السلطة بنبرة حديثة» . وتمضي في ثنايا الكتاب لتقول: « أوثق هنا عن رجل يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويجيب عن الأسئلة بلا أوراق ولا وسطاء يرتدي بزات غربية كما يرتدي (البشت الملكي) يفتتح المشاريع العملاقة في الصباح ويمارس ألعاب الفيديو في المساء. هذا ليس تزييناً دعائياً بل وصف لأسلوب قيادة جديد: زعيم لا يخجل من المزج بين العصرنة والحسم». وتصفه هاوس بأنه يشبه بطرس الأكبر: صاحب قبضة تحديثية يؤمن بأن بلاده لن تصمد في القرن الحادي والعشرين إلا إذا تغيّرت بعمق وبسرعة وبدون اعتذار. ولهذا فإن الإصلاحات التي أطلقها في رؤية 2030 لا تبدو في منظور هاوس ترفاً ولا تجميلاً بل حتمية وجودية لدولة على شفا تحوّلات جيوسياسية خطيرة. وتكشف في سطورها أن الأمير لا يرى الإصلاح رفاهية بل ضرورة للنجاة. تقول: «وهذا الرهان ليس استعراضًا بصريًا بل محاولة عميقة لإعادة تعريف الاقتصاد الوطني وهو ما يضيف إلى صورة الأمير سمات رجل أعمال بقدر ما هو رجل دولة». الكتاب ليس خطابًا تمجيديًا بل فيه أيضًا نقد ضمني بل صريح أحيانًا لما تسميه المؤلفة (الثمن السلطوي) الذي تفرضه هذه التحوّلات. إلى تقليص دور النخب التقليدية وكلها عناصر تطرح سؤالًا ثقيلًا: هل يمكن لدولة أن تتحوّل دون أن تصطدم بمرآتها القديمة؟ في فصول أخرى يبحر كتاب (الرجل الذي سيغدو ملكا) نحو السياسة الخارجية: علاقة السعودية بالصين وروسيا والمصالحة مع إيران والتوتر الضمني مع واشنطن وتظهر صورة لزعيم لا يحب أن يُملى عليه ولا يُخفي طموحه لأن تكون الرياض مركز القرار في الإقليم لا مجرد تابع لمحور. وتستطرد المؤلفة « السعودية لم تعد تقبل دور التابع بل تمسك بلعبة التوازنات: من كبح إنتاج النفط للضغط على الغرب إلى التفاوض مع أعداء الأمس بمنطق الندّية».هاوس ترى في هذا التحوّل عودة للعقل السياسي العربي في أبهى لحظاته: حين يمسك بالممكن والمستحيل في وقت واحد ويُلاعب الكبار بأعصاب باردة. إن القوة الأدبية لهذا الكتاب ليست فقط في المعلومات بل في الطريقة التي تُروى بها. فهاوس تكتب وكأنها تسير في ممرات قصر الحكم تصف تعبيرات الوجه وحركات اليد وتحلل اختيار الكلمات. تشعر أحيانًا أنها تنقل مسرحًا حيًا أكثر من كونها تكتب تقريرًا. والأهم أنها لا تقع في فخ (الاستشراق المعلّب) بل تقدم سردًا ذكياً يفهم منه أن ولي العهد ليس منتجًا غربيًا ولا استثناءً شرقياً بل ظاهرة محلية تسعى لتغيير قواعد اللعبة من الداخل. وتعيد هاوس التأكيد في كتابها على أن هذا التحوّل ليس ديمقراطيًا بل تحديثيًا: وهو تعبير دقيق لفهم أن ما يجري في السعودية اليوم هو تحديث قسري للبنية القديمة لا تفكيكها. هاوس لا تجيب مباشرة بل تترك القارئ مع المفارقة: أن من يقود أكثر حملة تحديث في تاريخ السعودية يفعل ذلك عبر تركيز غير مسبوق للسلطة. رجل يراهن على «المجتمع الجديد» دون أن ينتظر من المجتمع أن يقرّر بنفسه كيف يكون جديداً. الكتاب يمثل أكثر من مجرد سرد تاريخي فهو يقدم تحليلًا معمقًا للسياسة السعودية الجديدة في قالب سردي يسعى إلى تجاوز الاستقطابات المعروفة: فهو لا يختزل الأمير في شخص منقذ بل يرسمه بشخصية مركبة تحاكي الزعماء العظام عبر التاريخ حيث تنصهر الجرأة والطموح في شخص الأمير. أهمية الكتاب تنبع من توقيت صدوره الذي يتزامن مع إعادة تعريف للسعودية على خارطة العالم السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى دوره في تشكيل الرأي العام الأميركي والأوروبي حيال المملكة خصوصًا في ظل التحديات الإقليمية والدولية. أما فيما يتعلق بالتوزيع والنشر للكتاب فقد نفذت الطبعة الأولى بسرعة قياسية إذ تجاوزت مبيعاتها في الأسابيع الثلاثة الأولى 50 ألف نسخة وتمت ترجمتها بسرعة إلى لغات عدة من بينها العربية الفرنسية والألمانية. وهو ما يشير إلى الاهتمام العالمي بمضمون الكتاب سواء من الدوائر الأكاديمية الإعلامية أو السياسية. ردود الفعل المتباينة حيال صدور الكتاب لم تخلُ من إثارة الجدل. ففي الغرب رأى بعض النقاد أن الكتاب محاولة ذكية لفهم زعامة تفرض نفسها في زمن الانقلابات الجيوسياسية بينما انتقده آخرون كونه يميل أحيانًا إلى التبرير السياسي على حساب الحقوق والحريات. أما في الوسط العربي فاستقبل الكتاب بترقب حذر فالبعض اعتبره نافذة لمعرفة شخصية مهمة تؤثر في مستقبل المنطقة وآخرون رصدوا في النص تأويلات أميركية تفتقد حساسية السياقات المحلية. وفي السعودية كان الرفض والقبول متداخلين مع مراعاة الحذر في التعبير العام إلا أن بعض الأوساط المثقفة والسياسية اعتبرته (قراءة محترفة) غير موجهة بالضرورة. قراءة نقدية تحليلية: السرد بين السلطة والرؤية. ينطلق الكتاب من مقولة عنوانه التي تطرح نفسه كرجل سيغدو ملكًا وليست ملكًا. هذا الفرق اللغوي دقيق في جوهره فهو يشير إلى الزمن: حالة مستمرة من التكوين، بناء السلطة وصياغة المشهد السياسي والاقتصادي السعودي. هاوس بأسلوبها السردي المتقن لا تكتفي بسرد الأحداث بل تُحوّل القارئ إلى شاهد على عملية توليد السلطة من خلال خطوط سردية مركبة تجمع بين التوثيق السياسي والتحليل النفسي والسرد الأدبي. لذلك فإن النص يأخذ طابعًا سرديًا أشبه برواية تاريخية حيث يظهر الأمير بطبقات متعددة من الشخصية: زعيم راديكالي حداثي ورجل دولة دبلوماسي وقائد سياسي حازم وفي خضم محاولتها تقديم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان توظف هاوس اقتباسات مكررة لكن محورية تُرسي فيها صورة الأمير كرجل دولة عصري يخرج من قوالب الحكم التقليدي ويستخدم أدوات القوة اللينة بحرفية. لكن خلف هذه الصورة، تضيف هاوس جانبًا مغايرًا أيضاً: مثل رهانات طويلة الأمد على الطاقة الخضراء ومشروعات عملاقة بقيمة تريليونات مثل المشروع الضخم ذا لاين. وبهذا يُرسم الأمير كمهندس حضاري يحاول تجاوز الصراعات التقليدية لكن يظل داخل دائرة سلطة مركزية متحكمة. وفي الشرق الأوسط تتفاوت المواقف بين من يرى فيه مصلحًا ضروريًا لتحديث الدولة ومن يعتبره عكس ذلك ويظل الحديث محاطًا بالرقابة والحذر لكن لا يمكن إنكار تأثيره كزعيم يتصدر المشهد السياسي والاقتصادي. كتاب (الرجل الذي سيغدو ملكاً) ليس مجرد دراسة سياسية أو سيرة ذاتية بل هو سرد مركب عن لحظة تاريخية عن صراع بين الماضي والمستقبل عن رجل يقف في تقاطع مصيري بين إرث تقليدي ورؤية طموحة. من الناحية الأدبية يوظف الكتاب أساليب سردية تجعل من القارئ شاهدًا على ولادة نمط جديد من الزعامة زعامة تتماهى مع الزمن الحديث تدمج بين التكنولوجيا والقوة بين الصورة والمضمون. وهو بذلك رغم كونه نصًا أميركيًا في الأساس يطرح أسئلة عالمية عن معنى السلطة التحديث والتضحية. الأمير محمد بن سلمان كما تراه هاوس ليس ملكًا مكتملًا بل رجل يصوغ الزمن نفسه بين حزم لا يتزعزع وابتكار يلهث خلفه العالم. ولاختصار كتاب (الرجل الذي سيغدو ملكاً) تقول : « انه ليس فقط عن شخص بل عن لحظة، لحظة قررت فيها دولة كبرى مثل السعودية أن تمزّق جلدها القديم وتعيد رسم هويتها وفي مركز هذه اللحظة يقف محمد بن سلمان: أمير يتقن استعمال الزمن ويوظف الخوف والتفاؤل في آن رجل يصوغ مملكته القادمة على مقاسات القرن لا على مقاسات العرش فقط.» وإن كان التاريخ سيحكم عليه لاحقًا فإن هذا الكتاب يقدّمه كما هو اليوم: لا قديسًا ولا طاغية بل رجل يختبر حدود الممكن في زمنٍ يُعاد فيه تعريف الملوك.