
في خطوة استراتيجية تعكس طموح المملكة نحو الريادة الرقمية، أشاد مجلس الوزراء السعودي مؤخرًا بقرار إدراج «منهج الذكاء الاصطناعي» ضمن مناهج التعليم العام، وهو ما يُعد نقلة نوعية في تطوير التعليم وتوجهًا وطنيًا يواكب رؤية السعودية 2030. القرار لم يأتِ بمعزل عن سياق عالمي متسارع تُعاد فيه صياغة مفاهيم التعليم، وإنما جاء ليكون القاطرة التى تهيء أجيال المستقبل للتفاعل الإيجابي مع التقنية، ويُعزز مهاراتهم في الابتكار، والتحليل، واتخاذ القرار. في هذا التحقيق، نستعرض آراء نخبة من المعلمين والمختصين التربويين حول أهمية هذا القرار، فرصه وتحدياته، ومتطلبات إنجاحه على أرض الواقع. تؤكد الأستاذة نورة صعيقر الغواري، أن إدراج منهج الذكاء الاصطناعي في التعليم بات توجهاً عالمياً يكتسب زخماً متزايداً، لما يحمله من فرص واعدة للنهوض بالعملية التعليمية. وتقول: «من منظور تربوي، يُعد إدراج مفاهيم الذكاء الاصطناعي، مثل تعلم الآلة وتحليل البيانات، خطوة نحو إعداد الطلاب لعالم متغير تقوده التكنولوجيا، هذه المفاهيم لا تفتح آفاقًا معرفية جديدة فحسب، بل تنمّي لدى المتعلمين مهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات، والابتكار، وهي مهارات جوهرية لمستقبلهم الأكاديمي والمهني.» وتشير الغواري إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر دوره على المحتوى التعليمي فقط، بل يمكن الاستفادة منه كأداة لتحسين جودة التعليم نفسه، من خلال تتبع أداء الطلاب، وتحليل البيانات التعليمية، وتخصيص المحتوى بما يتناسب مع احتياجات كل طالب، مما يسهم في رفع كفاءة التعليم وتفعيله. ورغم هذا التفاؤل، لا تُغفل الغواري التحديات التي قد تواجه التطبيق الميداني لهذه المناهج، مشيرة إلى أن «نجاح إدراج الذكاء الاصطناعي في التعليم يتطلب إعداداً ممنهجاً، يبدأ بتدريب المعلمين وتأهيلهم لفهم هذه التقنية وتوظيفها بالشكل الصحيح داخل الصفوف الدراسية.» وتضيف: «هناك أيضًا مخاوف مشروعة من أن يُؤدي الاعتماد المفرط على التقنية إلى تراجع التفاعل الإنساني المباشر بين المعلم والطالب، وهو ركيزة أساسية في العملية التربوية.» كما تلفت النظر إلى ضرورة وجود ضوابط أخلاقية وتربوية واضحة، موضحة أن «الخصوصية الرقمية للطلاب، والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، مسائل لا بد من مراعاتها عند تطوير المناهج. يجب أن يُرافق أي منهج تقني مسار موازٍ لغرس قيم الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا.» وتختتم الغواري رأيها بالتأكيد على أن إدراج الذكاء الاصطناعي في المناهج «خطوة إيجابية ومطلوبة لمواكبة المستقبل، لكنها تحتاج إلى تخطيط متوازن، وتوفير الإمكانات والدعم الفني والتربوي اللازمين، لضمان تحقيق الفائدة المرجوة دون الإضرار بجوهر العملية التعليمية.» ترى الأستاذة زكية سهل اللحياني، أن إشادة مجلس الوزراء بإدراج الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم العام تمثل خطوة وطنية رائدة نحو تحقيق التميز التعليمي والجاهزية المستقبلية. وتضيف «هذه الخطوة لا تعكس فقط تحديثًا للمحتوى، بل تعبّر عن تحول عميق في فلسفة التعليم نحن ننتقل من نموذج التلقين إلى بيئة تعليمية تُنمي عقولًا قادرة على التحليل، والإبداع، والتفكير المنطقي، وهي المهارات التي يتطلبها المستقبل الرقمي المتسارع.» وتوضح اللحياني أنها بدأت بالفعل في توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي داخل الصف، مثل ChatGPT وLeonardo AI، مشيرة إلى أنها لاحظت أثرًا ملموسًا في تعزيز الفضول العلمي لدى الطالبات، وزيادة تفاعلهن مع المحتوى، وتنمية مهارات التفكير النقدي. كما أكدت أن التعليم أصبح أكثر حيوية وارتباطًا بالواقع، ولم يعد مقصورًا على الكتب والمقررات الثابتة، بل صار أكثر مرونة وانفتاحًا على مصادر معرفية متعددة.» وتُبرز اللحياني جانبًا مهمًا في هذا التحول، وهو دوره في تعزيز العدالة الرقمية، قائلة: «الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم في إتاحة فرص متكافئة لجميع الطلاب والطالبات، في مختلف المناطق، للوصول إلى محتوى تعليمي رقمي متقدم وتجارب تفاعلية ثرية، مما يرفع من فرص التميز ويقلص الفجوات التعليمية.» وتؤكد في ختام حديثها أن نجاح هذه الخطوة يتطلب تمكين الكوادر التعليمية بالتدريب المستمر والدعم الفني، موضحة أن «إدراج الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس فقط تطويرًا تقنيًا، بل هو استثمار في بناء جيل قادر على مواكبة تحديات المستقبل وصناعته بأدوات الحاضر.» يصف المعلم منصور المنصور، إدراج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية بأنه من المبادرات التعليمية الرائدة التي تعكس حرص منظومة التعليم في المملكة على مواكبة التغيرات المعرفية المتسارعة، وتهيئة الطلاب لمستقبل يتطلب مهارات جديدة وأدوات غير تقليدية. ويؤكد المنصور أن هذا التوجه لا يسهم فقط في تطوير العملية التعليمية، بل يُعالج أيضًا أحد التحديات المتكررة في الميدان التربوي، وهي ضعف دافعية الطلاب نحو التعلم. ويوضح أن للذكاء الاصطناعي إمكانات كبيرة يمكن تلخيصها في عدة محاور مهمة: تطوير المهارات: يعمل الذكاء الاصطناعي على تنمية مهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات، والابتكار لدى الطلاب. تخصيص التعليم: يتيح تصميم تجارب تعليمية مخصصة حسب مستوى كل طالب، مما يُعزز من فعالية التعلم. تعزيز الوصول إلى التعليم: يُمكن الطلاب في المناطق النائية أو من لديهم ظروف خاصة من الوصول إلى محتوى تعليمي متقدم. رفع الكفاءة التعليمية: من خلال أتمتة بعض المهام الإدارية والتقييمية، مما يتيح للمعلمين وقتًا أكبر للتفاعل الحقيقي مع الطلاب. مواءمة المهارات مع سوق العمل: يسهم في إعداد الطلاب لمتطلبات سوق العمل، خصوصًا في مجالات البرمجة وتحليل البيانات والتقنيات الحديثة. تحسين تجربة التعلم: يوفر محتوى تفاعليًا وغنيًا يُشجع على الفضول والاستكشاف. تقديم تغذية راجعة فورية: ما يساعد في تسريع التعلم وتصحيح المسارات التعليمية بشكل لحظي. تمكين المعلمين: لا يقتصر التطوير على الطلاب فقط، بل يشمل أيضًا دعم المعلمين وتطوير مهاراتهم التقنية والمهنية. ويختتم المنصور حديثه بالتأكيد على أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل شريك في تطوير التعليم وتحديثه، شريطة أن يكون استخدامه مدروسًا، ويواكبه تأهيل المعلمين وتوفير البنية التحتية المناسبة، لتحقيق نقلة نوعية حقيقية في مخرجات التعليم. كما يؤكد الأستاذ علي عبدالله العباد، أن إدراج الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم العام لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة تتماشى مع متطلبات المرحلة وتحولات العصر. كما يقول أن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا معرفيًا، بل بات لغة العصر ومكونًا أساسيًا لا يقل أهمية عن أي مادة علمية في المنهج الدراسي، بل يجب أن يُوظف كمكون داعم في التعامل مع مختلف المواد الأخرى، لما له من قدرة على التكامل والتفاعل معها، شرط أن يكون ذلك وفق ضوابط تربوية وأخلاقية واضحة.» ويشير العباد إلى أن التعليم في المملكة كان سبّاقًا في توظيف التقنية، ويضيف: «لطالما شكّلت التقنيات الحديثة جزءًا أصيلًا في التجربة التعليمية السعودية، فقد شهدنا تنظيم مسابقات الروبوت، وتصميم المحتوى الرقمي، وتطبيقات الابتكار، سواء في المدارس الأهلية أو الحكومية. كما كانت غرف مصادر التعلم في المدارس بمثابة البيئة التمهيدية الأولى لتعليم مبادئ الذكاء الاصطناعي.» ويؤكد أن إدراج هذا المنهج لن يكون غريبًا على منسوبي التعليم، بل سيكون محل ترحيب، خصوصًا من الطلاب، قائلاً: «الطلاب اليوم هم أبناء العصر الرقمي، وتفوقهم في التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي أصبح واضحًا، بل إنهم في كثير من الحالات يتقدمون على الجيل السابق في هذا المجال. لذا فإن توفير بيئة تعليمية تحتوي هذا التقدم ستُفجر طاقاتهم الذهنية، وتعزز الابتكار، وتوجههم نحو الإبداع الحقيقي.» ويربط العباد بين هذا التوجه والتطلعات الوطنية، مشيرًا إلى أن إدراج الذكاء الاصطناعي في التعليم يسهم بشكل مباشر في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، عبر بناء جيل يمتلك المهارات الرقمية التي تؤهله لقيادة متطلبات الحياة المستقبلية، ويكون قادرًا على حماية نفسه ووطنه في ظل ما يصفه بـ»السلام الفتّاك» الذي تفرضه تحديات التقنية. العباد يختتم حديثه بالتأكيد على أن «هذه الخطوة تأتي في وقتها المناسب، حيث لا يزال الذكاء الاصطناعي في بداياته عالميًا، مما يُتيح الفرصة لتأصيله تربويًا داخل المنظومة التعليمية، والاستفادة من قدراته في رفع جودة التعليم، وزيادة الإنتاجية، وتقليل الكلفة، واختزال الوقت، في جميع المجالات الحياتية والتعليمية.» أشاد الأستاذ فاضل سلمان المبارك، والمُتابع لتطورات تقنيات الذكاء الاصطناعي، بقرار مجلس الوزراء إدراج «منهج الذكاء الاصطناعي» ضمن مناهج التعليم العام، واصفًا الخطوة بأنها «استراتيجية» وتتسق مع رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى بناء جيل مبدع ومتقن لأدوات العصر الرقمي. ويقول المبارك إن تعليم الذكاء الاصطناعي في مراحل مبكرة لا يعني التخصص في البرمجة فقط، بل هو إعادة تشكيل لطريقة تفكير الطالب، وتنمية مهارات التحليل واتخاذ القرار، ومساعدته على التعامل الواعي مع التقنية. ويضيف: «المنهج لا يُعلّم الطلاب كيف يستهلكون التقنية، بل كيف ينتجون من خلالها، وينتقلون من التلقين إلى الإبداع.» ويؤكد أن إدراج مفاهيم مثل الخوارزميات، وتعلم الآلة، والأخلاقيات الرقمية من شأنه أن يعزز وعي الطلاب بالتحولات الجذرية التي يشهدها سوق العمل، ويؤهلهم للمنافسة في وظائف المستقبل التي لم تُخلق بعد. ولا يغفل المبارك عن دور الذكاء الاصطناعي في دعم التعليم نفسه، من خلال أدوات التخصيص والتشخيص الفوري لمستوى الطالب، مما يُعزز من كفاءة العملية التعليمية وفاعليتها. لكنه يحذر في الوقت ذاته من الإفراط أو التفريط في استخدام الذكاء الاصطناعي، ويقول: «كثيرًا ما ناديت في لقاءاتي التدريبية بأهمية التوازن في التعامل مع الذكاء الاصطناعي. الاعتماد الكلي عليه قد يعطل قدرات الطلاب في التفكير النقدي والاستقراء والتأمل، وفي المقابل تجاهله بالكامل يُعطل مواكبة الواقع، ويضع العراقيل أمام التطور.» ويشدد على أن الذكاء الاصطناعي أداة، ويجب أن يُستخدم ضمن إطار تربوي واضح، تحت مظلة سلوك رقمي واعٍ يحفظ القيم ويوجه الاستخدام، مضيفًا: «التقنية دون وعي قد تتحول إلى عبء، بدل أن تكون أداة نهضة.» ويعتبر المبارك أن التحدي الأكبر لا يكمن في إعداد المنهج نفسه، بل في تأهيل المعلمين وتوفير الأدوات والتدرج المناسب لتقديم المفاهيم حسب المرحلة العمرية، دون الإخلال بالثوابت التربوية والقيم الوطنية. كما أشار إلي إنها لحظة مفصلية في تاريخ التعليم، تتطلب تفاعلاً جادًا من الأسرة التعليمية، وتعاونًا فاعلًا لتحقيق أثر ملموس على مستقبل أبنائنا. نحن بحاجة إلى منهج يُعلّم الذكاء الاصطناعي، ويُرسّخ وعيًا ومسؤولية أخلاقية في استخدامه. وفى الختام، إن إدراج الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم السعودي لا يمثّل مجرد تحديث في المحتوى، بل هو توجه وطني جاد لبناء إنسان المستقبل. لكن نجاح هذه الخطوة التاريخية لا يتوقف عند القرار، بل يتطلب شراكة فعالة بين المؤسسات التعليمية والمعلمين وأولياء الأمور، إلى جانب توفير البنية التحتية، والتدريب المستمر، والإطار القيمي الواعي. في زمن تتسارع فيه التحولات التقنية، يبقى التعليم هو الركيزة الأولى، والذكاء الاصطناعي هو المفتاح نحو تعليم أكثر عدلاً، وإبداعاً، واستدامة.