تخرج من مصر وتأثر بآدابها وكتّابها ورصد ملامح مكة التاريخية..

حمزة محمد بوقري.. رائد الترجمة عن الأدب الغربي.

يقف الأديب والكاتب السعودي الراحل حمزة محمد بوقري في طليعة المترجمين السعوديين حيث ترجم قصصًا غربية قصيرة في الخمسينيات الميلادية، أغلبها عن الأدب الفرنسي والروسي والصيني، منتقيًا منها ما أبدعه مؤلفون كبار أمثال الروسيين ليو تولستوي وأنطون تشيخوف، والإنجليزي سومرست موم، والفرنسيين موليير وجي دو موباسان، والصيني لي فوني وغيرهم. ولد حمزة بوقري في مدينة الطائف عام 1351هـ (1932م)، وهناك من يقول إن مولده كان في مكة المكرمة، لكنه فصل بين القولين بعد أن كتب: «ولدت بمكة المكرمة كما في حفيظة النفوس، في مدينة الطائف كما في الواقع». وتلقى تعليمه بمكة المكرمة وذلك في كتّاب أول الأمر، ثم في مدرسة أهلية قبل أن يلتحق بمدرسة العزيزية الابتدائية، ثم المعهد العلمي السعودي، ثم ابتعث إلى جامعة فؤاد الأول بالقاهرة (جامعة القاهرة حاليًا) والتحق بكلية الآداب، وبعد تخرجه عاد للوطن وعمل مديرًا لإدارة التنسيق بمديرية الإذاعة، ثم مديرًا لإدارة الأحاديث والثقافة العامة، فمديرًا عامًا للمطبوعات عندما تحولت مديرية الإذاعة إلى مديرية عامة للإذاعة والصحافة والنشر، كما عين وكيلًا لوزارة الإعلام لبضع سنوات، وأشرف على مجلة الإذاعة في الستينيات، وأسهم بالكتابة فيها وفي غيرها من الصحف المحلية، وكان ضمن المشاركين في إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام 1387هـ (1967م)، وهي السنة التي انتهت فيها علاقته بالوظيفة، حيث تقاعد مبكرًا وتفرغ لإدارة أعماله التجارية الخاصة فرأس مجلس إدارة بعض الشركات، وشارك في عضوية مجالس إدارات البعض الآخر. (بائع التبغ) تحد للظروف والاعتبارات أصدر بوقري مجموعة قصصية مترجمة أسماها (بائع التبغ) على اسم رواية الكاتب الشهير سومرست موم، بعد أن كان ينشر تلك القصص القصيرة على فترات في صحيفة البلاد ومجلة الإذاعة عام 1954م، وبعدها بعدة سنوات أصدر مجموعة قصصية أخرى أسماها (صانع الدمى). دراسة تحولت إلى كتاب ألف حمزة بوقري كتاباً بعنوان «القصة القصيرة في مصر ومحمود تيمور» عام 1979م، وهو كما يقول في مقدمته كان في الأصل دراسة للحصول على درجة علمية، لكن الظروف حالت دون سفره لحضور مناقشة الدراسة التي ظلت حبيسة الأدراج لعدة سنوات، قبل أن تخرج إلى النور بعد إلحاح من الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي على نشرها. وتناول حمزة بوقري في كتابه هذا الحياة في مصر في القرن التاسع عشر وأثرها في نشأة الأقصوصة وتطورها، كما تطرق إلى بعض الروايات والقصص الشهيرة التي ألفت في مصر ومنها (العبرات) للمنفلوطي، و(الربيع وقصص أخرى) لنجيب توفيق، و(ما تراه العيون) لمحمد تيمور، و(إحسان هانم) لعيسى عبيد، و(سخرية الناس) لمحمود طاهر لاشين، قبل أن يسلط الضوء على محمود تيمور ونشأته وثقافته وتأثير أدب الغرب فيه وقصصه، وآرائه في الأدب عمومًا وفي القصة على وجه الخصوص، وآراء النقاد في فنه. سقيفة الصفا تصوير للحياة المكية نشر حمزة بوقري روايته «سقيفة الصفا» عام 1983م، وصوَّر فيها البيئة المحلية ومراحل التغييرات، وفي عام 1991م ترجمت مؤسسة «بروتا» في الولايات المتحدة الأمريكية الرواية إلى اللغة الإنجليزية. وتعد هذه الرواية أبرز ما كتبه بوقري بحسب آراء الكثير من النقاد، ومنهم الدكتور إبراهيم بن محمد الشتوي الذي كتب في مجلة (الدارة) الصادرة عن دارة الملك عبدالعزيز: «تعود أهمية الكتابة عن رواية سقيفة (الصفا) إلى سببين: أولهما أهمية شخصية الكاتب المدروسة (حمزة بوقري) بوصفها شخصية لم تجد العناية التي تستحقها موازنة بغيرها من شخصيات الأدب السعودي. وتتمثل هذه الأهمية بوعيها المبكر بقيمة التخصص في جانب من جوانب الثقافة والأدب، ففي المرحلة التي ظهر فيها الكاتب كان أغلب الكتاب يميلون إلى الكتابة الشاملة، فيكتبون الشعر إلى جانب المقالة والقصة، بينما نجد أن حمزة بوقري يتجه ناحية الفن القصصي، والقصة القصيرة على وجه الخصوص، دراسة، وترجمة، وتأليفًا. وجاء هذا العمل القصصي موضع الدراسة نتاج هذه الخبرة النقدية والكتابية، وتطورًا كبيرًا لتلك التجربة، وهو ما يميزه عن تجارب الآخرين من معاصريه في هذا الحقل. وتمثل أهمية النص الذي بين أيدينا ثاني السببين، فقد لقيت الرواية عناية من الدارسين فعدها السيد محمد ديب «وثبة كبيرة في الرواية السعودية، وأكد آخرون على النضج الكبير الذي تميزت به حتى عدوها مما يستحق أن ينسب إلى الروايات العالمية، وبناء على هذه القيمة جاء تناول الدارسين لهذا النص، والتركيز على عنصر المكان فيه بصفته أبرز عناصره الفنية». معلم من معالم الفن الروائي في مقال له بصحيفة (عكاظ) أشاد الكاتب عبدالله عمر خياط برواية (سقيفة الصفا) بقوله: «إنها رواية تمثل معلمًا واضحًا من معالم الفن الروائي في هذه البلاد، كما تصور البيئة المحلية تصويرًا حيًا يذكرنا برواد القصة الطويلة الذين صوروا بيئاتهم المحلية تصويرًا دقيقًا رائعًا»، وأورد في مقاله أحد فصول الرواية ونصه: «لم أعد إلى البيت، ولم أر تلك الأريكة مرة أخرى، ولا أعرف ما الذي حل بذلك المصباح المشرع في ركن الغرفة؟ ولا من الذي يحلب أم الخير؟ وهل مازالت تلك الأرانب في جحورها حيث كانت؟ ولكن شيئًا واحدًا بدا مؤكدًا وهو أن شخصًا ما أحضر ملابسي إلى بيت العم عمر حيث أقيم الآن، بدليل أنني ما زلت ألبس الملابس نفسها التي كنت ألبسها سابقًا. ومع أنني لم أعد إلى البيت، إلا أنني عدت إلى المدرسة، لقد أقنعني هو بذلك: «يمكنك أن تغيب أكثر مما غبت، لقد سأل عليك المدير أكثر من مرة، وقدم كل الأساتذة لزيارتك، ولكنني كنت أرفض أن أدعهم يقابلونك حتى تسترد عافيتك، وتعود إليهم بنفسك.. أنت في حاجة إلى الخروج من بين هذه الجدران الأربعة ورؤية الناس».. وتحت وطأة ذلك الإلحاح عدت، واستمتعت بالعودة إلى حد كبير، بالرغم من أنني كنت أسير بين جنبات المدرسة وأنا شبه نائم. ولو طلب إلي أن أكتب يومها موضوعًا في وصف شعوري لقدمت ورقة الإجابة بيضاء.. ومع ذلك كنت أدرس، وأناقش الطلبة، وأصحح كراساتهم. ولكن ما يكاد ذلك ينتهي حتى أدخل في حجر نفسي الحصين وألوذ بالصمت.. ولم يضايقني أحد بالتطفل على ما يدور بداخلي، فكنت أؤدي واجبي وأنصرف. لقد قضيت مدة طويلة ــ هكذا بدا لي ــ في بيت العم عمر، مع أنني حتى الآن لا أذكر أنني ذهبت إليه ليلة لفظتني المقابر، ولكن وجودي المستمر بين جدران الغرفة التي خصصت لي بجانب المكتبة يثبت بشكل قاطع أنني هنا». الكاتب أحمد بوقري تناول الرواية من جانب نقدي فكتب في صحيفة (الجزيرة): « يحار قارئ نص «سقيفة الصفا»، ويتساءل: أي لونٍ من الكتابة هو؟.. كيف يصنف هذا العمل الكتابي لحمزة بوقري؟.. هل ينتمي إلى السيرة الذاتية.. أم إلى الفن الروائي؟ هل هو مذكراتٍ أم لوحاتٍ سردية غير متصلة تقف على حافة النص السيري أم على حافة النص الروائي... أم بين بين؟ بعيداً عن هذه التنسيبات أو التصنيفات الكتابية، يبزغ سؤال: أين تكمن جماليات نص «سقيفة الصفا»؟.. فلو عرفنا أن هذا النص البديع كتب قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وفي لحظة من القلق الفني والقلق التاريخي رام الكاتب بضغطٍ منهما أن يحبس لحظة تاريخية مهمة للروح الجمعي للمكان/ مكة، آخذًا في التغير والتحول، فبدت لنا روح التغير هاته ماثلةً في جوهر السرد ووتيرته وتراكم صوره ولوحاته الاجتماعية منسابة عبر تأرخة حميمة للذات في بوحها التلقائي وعند مستوى رؤاها المتوفرة». ويضيف أحمد بوقري في قراءته للرواية: «سقيفة الصفا في نظري كنصٍ إبداعي تجاوزًا لكل التنسيبات الفنية، يعد مثالًا على العمل السردي المغرق في خصوصيته وتاريخه الفردي والجمعي المرتقي لأفق الكونية من حيث بدت ترجمة العمل إلى لغاتٍ أخرى كالروسية والإنكليزية بمثابة مثاقفة إبداعية قدمت اللوحة الاجتماعية شديدة الخصوصية للمكان والزمان المكيان مكتملًا نسيجها عبر تاريخها الفردي وزمنها النفسي، وحيواتها. والنص هنا عبر توثيقات المكان والبيئة المكية المتحولة، وعبر رصد طرق العيش والتفكير ومفردات الحكي ومسارب التغيرات التي انتابت مرحلة الثلاثينات والأربعينات في مكة المكرمة». رحل مبكرًا توفي الكاتب حمزة بوقري عام 1403هـ (1983م) عن سن يناهز الـ 52 عامًا، ونعاه الأستاذ محمد عبدالقادر فقيه بقصيدة مؤثرة قال فيها: لمثل حمزة فلتهمي الدموع أسىً.. لمثله ولنزر من أياديه زين الشباب إذا حف الشباب به.. زين الشيوخ إذا حلت بناديه المنطق الفصل بعض من خلائقه.. والأريحية بعض من معانيه فتى العشيرة إن طاف الهوان بها.. والمستغاث به من بعد باريه إلى أن يقول: يا حمزة البر ما أبقى الزمان هوى نأسى عليه ولا غالٍ فنبكيه من بعد نعيك ما حزن يروعنا أجملت حيًا وميتًا دون تنويه