تتوهج كشمسٍ جريئة..

سينما راقية تنحاز للإنسان.

* مدخلٌ مقتصد : هنا في هذه العجالة ، أسردُ ما احتشدَ في ذاكرتي المخاتلةِ من أطيافِ مشاهد سينمائيةٍ ظلتْ تتوهجُ كشمسٍ جريئةٍ رغم مرور الكثير من الوقت تحت جسرِ الزمن. 1 ( خرجَ ولم يعدْ ) فيلمٌ للمخرج المبدع محمد خان ، شاهدتُهُ أكثر من ثلاث أو أربع مرات ، ولديَّ استعدادْ لمشاهدته مراتٍ عديدة ، الفيلم من إنتاج الثمانينات ، بطولة فريد شوقي و يحيى الفخراني وليلى علوي وعايده عبدالعزيز وتوفيق الدقن .. إنه دعوةٌ هامسةٌ لمحبة الريف حيث غنائية الطبيعة الفاتنة ، وجمال الأرض والحقول الممتدة مثل حلمٍ جميلٍ طويل ، وسكينة الليل والروح معًا ، إذْ يكفي الجلوس بهدوء في شرفةٍ مطلةٍ على « الغيط « ، شرفةٍ تتدفقُ فيها النسائم ، فيما تتناول الموز والبرتقال و» أم علي « ، وتحتسي القهوة لتستردَ حياتَك الحلوةَ الهاربة ..فيلمٌ لا يكترثُ بألاعيبِ السياسةِ وضلالاتِ الأحزابِ وأوهامِ المثقفين ، فيلمٌ يديرُ الأعناقَ فقط إلى جمالِ الناسِ البسطاء غير المهمومين بأيِّ شيءٍ سوى صفاءِ النفسِ وراحةِ البال ، تسكنهم الأرضُ والشجرُ والظلالُ والعصافيرُ وأصواتُ الكروان وموسيقى الماء وتلك المباهجُ اليوميةُ الصغيرةُ مثل الطعام الشهيِّ الذي هو أصلًا من إنتاجِ الأرض حيث الحياة المليئة بالحياة. أخيرًا أقول : هذا الفيلمُ الجميلُ مقتبسٌ من رواية « براعم الربيع « للكاتب ه.أ. بيتش. 2 في فيلم ( ميرامار ) - المقتبسِ من رواية نجيب محفوظ التي تحملُ العنوانَ نفسَهُ - أسرني يوسف وهبي في دور الإقطاعي الذي تعرضَتْ أملاكُهُ للتأميم وهو يبوحُ بما في قلبِهِ من ضغائن على « ثورة 52 « ، ضاغطًا حرائقَ غضبِهِ كلَّها في كلمة « طُزْ «.. كذلك أسرني عماد حمدي في دور صحفيٍّ متقاعدٍ - أو بالأحرى صحفيٍّ تمَّ إقصاؤه - وهو المُثْقَلُ بأعباءِ الجسدِ والحياةِ معًا ، إذْ يجلسُ باكرًا في بهو « البانسيون « يتلو بهدوءٍ و بصوتٍ رخيمٍ أنهكَتْهُ متاعبُ الزمن بضعَ آياتٍ من القرآن الكريم من مصحفٍ كبير ..كذلك أسرتني شادية في دور « زهرة « تلك الفتاة البسيطة الجميلة التي تعمل في البانسيون ، الهاربة من قريتها ومكابداتها هناك وهي تتأملُ واجهةَ محّلٍ لبيعِ الملابس ، حالمةً بشراءِ فستانٍ راقَ لها قيمتُهُ جنيهان ، وحالمةً كذلك بأنْ تتعلمَ القراءةَ وتتقنَ الكتابةَ وأنْ تتزوجَ يوسف شعبان ذلك « الثورجيّ « الذي تكتشفُ في خاتمةِ المطافِ أنه محضُ انتهازيٍّ مخادعٍ متباهٍ بوهمِ كونِهِ مهمًّا في السلطة الجديدة. 3 ( مالكولم إكس ) هذا الذي كان لصًّا ، و عضوًا في عصابةٍ ، نزيلَ سجونٍ ، وضائعًا في دروب الحياة حيث الانغماس العميق في عالم المخدرات والحانات والعلاقات المحرَّمة .. تحوَّلَ - بعد إعلان إسلامه وانضمامه إلى حركة « أمة الإسلام « - إلى شخصٍ آخر ..بات داعيةً ، مناضلًا ، حاملًا لشهادة الماجستير ، مفكرًا ، و مدافعًا بحماسٍ شديد عن الحقوق المدنية لبني جلدته من الأمريكان من ذوي الأصول الإفريقية.. وبسبب انحرافات « رفاقه « في حركة « أمة الإسلام « عن القيمِ التي أقنعوه بها والتي آمنَ بها إيمانًا قاطعًا والتي التحقَ بسببها بالحركة وكان على استعدادٍ للتضحية برأسه لتسودَ وتعلو ، وكذلك بسبب انحرافات الزعيم الروحي إليجا محمد الذي آمنَ به بوصفِهِ معلّمًا ومخلِّصًا والذي حامَتْ شكوكٌ كبيرةٌ كأنها اليقين حول سلوكه المنافي للقيم الأخلاقية التي كان ينادي بها خصوصًا مع النساء - انشقَّ إكس عن الحركة وبات ينتقدُها علنًا ، فيما سعى إلى تأسيس حركةٍ أخرى موازيةٍ لها أو بديلةٍ عنها.. الأمر الذي دفع « رفاق « الأمس إلى تهديده بشكلٍ دائمٍ وكذلك تهديد زوجته وأطفاله أيضًا..في البدء أضرموا النارَ في بيته ليلًا حين كانت أسرته تغطُّ في نومٍ عميق بيد أنها نجَتْ ...بعد ذلك بأيامٍ قليلةٍ قاموا بإطلاقِ النارِ عليه وقتله فيما هو يخطبُ في حشدٍ على مرأى ومسمع زوجته وأطفاله! كتاب « سيرة مالكوم إكس « كان رائعًا ، وكذلك هذا الفيلم - الذي تألقَ فيه « دينزل واشنطن « - لا يقلُّ عنه روعةً. 4 * « ثمة نظريةٌ في الحياةِ تقول : إن القويَّ سوف يهزمُ الضعيف ، بيدَ أنَّ الذكاءَ والعقلَ يهزمان القويَّ في كل مرة «. هذه الفقرةُ اقتبستُها من الفيلم الوثائقي الجميل ( I Am Ali )..الذي تناولَ سيرةَ الملاكم محمد علي كلاي : طفولته ، نشأته ، بداياته الأولى ، وكيف دخل عالم الملاكمة وهو صبيٌّ بسببِ دراجةٍ سرقها أطفالٌ سيئون ، ثرثرته العالية ، حماقاته العذبة ، حياته العائلية ، شؤونه العاطفية ، زيجاته المتعددة ، أولاده التسعة ، تحولاته الدينية ، قناعاته الفكرية ، حضوره الإنساني ، معاركه الضروس ضد التمييز العنصري ، انتصاراته الكثيرة على الحلبة وإخفاقاته القليلة أيضًا ، مواقفه السياسية وعلى رأسها موقفه الشهير ، الصريح ، الشجاع من حرب فيتنام ورفضه المشاركة في خوضها الأمر الذي جعله عُرْضَةً للكثيرِ من الأذى. المتحدثون كانوا في غايةِ الجمال ، خصوصًا شقيقه « رحمان « ذا الروح العذبة ..وكذلك تلك اللقطات من حياته المليئة..وحديث بعض زوجاته ، ذلك الحديث الذي بللته الدموع ، كذلك حديث ابنه وبناته وتسجيلاته لمكالماته معهم وهم صغارٌ لأنه يؤمنُ بالتاريخِ والذكرى. الذي بهرني أكثر تلك التفاصيلُ الإنسانيةُ العذبةُ في حياة هذا الإنسان الشهير مثل زيارتِهِ المفاجئةِ لطفلٍ مصابٍ بسرطانِ الدم ، تلك الزيارة التي كلَّفًتْهُ مشوارًا استغرقَ أربعَ ساعاتٍ ذهابًا وإيابًا ، وكيف ظلَّ صامتًا في طريقِ العودةِ حزنًا على ذلك الطفلِ الجميلِ السقيم..كذلك شهادة ابن « جون فريزر « عن تلك العداوةِ التي استعرَتْ نيرانُها بين أبيه وكلاي ، وكيف اعتذرَ كلاي عن إساءاتٍ بدرَتْ منه بحقِّ عائلتِهِ وأبيه..وكيف تصالَحَا وكأنَّ شيئًا لم يكن. إنه وثائقيٌّ عظيمٌ يستحقُّ المشاهدة. 5 قبل أيام ، استمتعتُ بمشاهدة فيلمٍ إيرانيٍّ أسرني جدًّا ، الفيلم بعنوان ( ألوان الفردوس ) للمخرج المدهش مجيد مجيدي ، وقبلها شاهدتُ له عددًا من الأفلام الجميلة ، أذكر منها : أبي ، باران ، أغنية للعصفور الدوري ، الإوز المهاجر ..وسبق لي أن شاهدتُ أفلامًا ساحرةً له ولسواه من المخرجين الإيرانيين الكبار الذين يصنعون من البسيط في هذه الحياة فنًّا عميقًا مدهشًا يلمسُ القلب. ينحاز مجيدي إلى عالم الكادحين ، وتحديدًا إلى قيم الفقراء و نبل المسحوقين رغم أنينهم العالي ، كما ينحاز إلى قضايا المرأة ، وإلى الطبيعة بغنائياتها المتجددة وأعراسها الساحرة ، وإلى الطفولة وأسئلتها الشائكة وقناعاتها التي تربك وعي الكبار ، والشغف بالحرية بمعناها الكبير ، والمحبة بوصفها غريزةً صافيةً عند الأطفال ، بعيدًا عما تكرّسُهُ مؤسساتُ الكراهية وما تشوهه كهوفُ الآيديولوجيا. على أيِّ حال ، هنا قائمة بأفلامٍ إيرانية تستحق المشاهدة : ألوان الفردوس / أبي / أغنية للعصفور الدوري / رسالة إلى الله / الإوز المهاجر / طعم الكرز / أسامة / رجم ثريا /أين بيتُ صديقي ؟ / دائرة / حصان / وقت للخيول المخمورة /اليوم الخامس والعشرون / البالون الأبيض / باران ( مطر ) / ليلى. 6 كاتب السيناريو الفرنسي جان كلود كارييه وصف السينما التي يبدعها المخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي بأنها « السينما المطرزة بالبراءة « ، كونها تلقائية ، مباشرة ، بسيطة ، متقشفة ، ومليئة بشعرية الصورة و بلاغة الشارع ، أبطالها في العادة أطفالٌ مقمرون كالإشراقيين الكبار ، كما في فيلمه الجميل « أين بيتُ الصديق ؟ « ، بطل هذا الفيلم طفلٌ يقطع المسافات من قريةٍ إلى أخرى ومن بيتٍ إلى آخر ، سالكًا دروبًا عسيرةً غير مكترثٍ بحلول الظلام .. يرتكب كل هذه المغامرات ليسلّم زميله « كرّاسة الواجب « كي يدرأ عنه عقابَ المعلّمِ الغليظ .. علمت فيما بعد من أين أتت تلك البراءة الواضحة وذلك البياض الحاد في أفلام السيد عباس ، لقد كان شاعرًا ورسامًا يكترث بالتفاصيل الصغيرة التي تجري كالجداول في الحياة اليومية ، فهو يُعْنى بالبسيط المدهش والعابر المختلف وتلك البروق التي تلمع في الذاكرة ، وما يحتشد من أسئلة مربكة من نوع « من نحن ؟ « ، تمامًا كما تجلى في فيلمه الشهير « طعم الكرز « ، الحاصل على الجائزة الكبرى في « مهرجان كان « السينمائي .. في هذا الفيلم ـ الذي تشعُّ في آفاقه جدلية الحياة والموت ـ أسرتني تلك العبارة التي أطلقها راكبٌ عجوزٌ في أفقِ رجلٍ يبحثُ عَمَّنْ يساعده على الانتحار : « الموتى لا يستطيعون أكلَ التوت ، ألن تفتقد طعم التوت ؟ « ...ولكي أتتبع المزيد من آثاره ، أنفقتُ وقتًا جميلًا في قراءة كتاب « السينما المطرزة بالبراءة « للرائع أمين صالح الذي يسردُ فيه « سيرة كيارستمي « مع السينما ، ولكي أقفَ على شاعريته المنعكسة على مرايا أعماله السينمائية المتألقة قرأتُ أيضًا دواوينه الثلاثة : « ذئبٌ متربّص « ، و « رفقة الريح « ، و « ريح وأوراق «...في شعره كلمات مقتصدة و مشاهد غنية ، ومضامين عميقة ، مليئة بالحياة والحركة وجمال الطبيعة وفتنة الكتابة وهواجس الموت. 7 الفيلمُ الرائعُ ( The Shawshank Redemption ) - المقتبس من رواية ستيفن كينغ ، التي تحملُ العنوانَ نفسَهُ - أسرني كثيرًا ؛ لذا شاهدتُهُ مراتٍ عديدةً ولم يدركني الملل..الفيلمُ يتناولُ قصةَ هروبِ سجينٍ عبر نفقٍ قامَ بحفره بملعقة ! هنا يسعدني نشر هذا الحوار البديع الذي اقتطفتُهُ من سياقِ الأحداث : * دوفراين ( قام بالدور الممثل الرائع تيم روبينز ) ، متحدثًا لرفاقه في السجن هكذا : أسبوعٌ في السجن الانفرادي هو أشبَهُ بعام ، هذا صحيحٌ ، لكن كان السيد « موزارت « يلازمني. - أحدُ المساجين : إذن ، سمحوا لك بأخذ « المسجل « معك ؟ * دوفراين :كانت هنا وهنا ( مشيرًا بيده إلى أن الموسيقى تسكن القلب والذاكرة )..، وأضاف : هذا ما يميز الموسيقى ، ليس بوسعهم انتزاعها منك ..ألم تشعروا بذلك قط حيال الموسيقى ؟ - سجينٌ آخر ( يقوم بالدور الممثل المتألق مورجان فريمان ) يقول : أنا كنتُ بارعًا في العزف على الهرمونيكا ، كان ذلك في شبابي..بيد أني فقدتُ اهتمامي بها ، لم يَبْدُ لي الأمرُ منطقيًّا هنا.. * دوفراين : هنا الأمرُ منطقيٌّ أكثر ، أنت تحتاجُ إلى ذلك كيلا تنسى. - السجين : أنسى ؟!! * دوفراين : تنسى أن هناك أماكن في العالم ليستْ مصنوعةً من الحجارة..وأن هناك أمرًا في داخلك لا يمكنهم الوصول إليه.. كما لا يمكنهم لمسه ، إنه لك حَسْب.. - السجين : ما الذي تتكلم عنه ؟ * دوفراين : إنه الأمل. أيضًا ثمة مشهدٌ من الفيلمِ الجميلِ الخالدِ نفسِهِ أسرني هو الآخر ؛ لعمقِهِ ولدلالاته الباهرة ، هنا تحديدًا أقتبسُ ما جاء على لسان الممثل الفذ / مورغان فريمان : « بروكس ليس مجنونًا ( عندما في لحظةِ غضبٍ عارمٍ أرادَ جَزَّ عنقِ هايوود بسكين ، رافضًا فكرة تسريحه من السجن ) ..لقد أصبحَ جزءًا من المؤسسة ..أمضى الرجل هنا - داخل السجن - خمسين عامًا .. نعم ، أمضى خمسين عامًا ، هذا كل ما يعرفه ..هنا هو رجلٌ مهمٌّ ومثقفٌ ( كونه يعمل أمينًا لمكتبةِ السجن )، وهو في الخارج محضُ نكرة ..إنه عجوزٌ مُدَانٌ ، مصابٌ بالتهابٍ في مفاصلِ اليدين ..لعله لن يستطيعَ الحصولَ على بطاقةِ مكتبةٍ إنْ حاول ، أتفهمُ قصدي ؟ صدقني ، إن لهذه الجدران تأثيرًا غريبًا ..في البداية تكرهها، ثم تعتادها ...بعدما يمرُّ وقتٌ كافٍ ، تصبحُ معتادًا عليها لدرجةِ أنك تعتمدُ عليها تمامًا ..هكذا تصبحُ جزءًا من المؤسسة «. المحزنُ حقًّا هو عندما غادر « بروكس « السجنَ الذي أنفقَ فيه نصفَ قرنٍ من حياته ، وجدَ نفسَهُ وحيدًا و غريبًا ، ضائعًا ومبدَّدًا في مجتمعٍ واسعٍ وكئيب ؛ لذا وبعد أيامٍ قليلةٍ من خروجه عثروا عليه ميتًا في غرفةٍ مهملة 8 في عزلةٍ مليئةٍ ، أنفقتُ وقتًا ممتعًا في مشاهدةِ أفلامٍ وثائقيةٍ رائعة عن عدد من المبدعين ..شاهدت « النجيب « وهو فيلم وثائقي في أربعة أجزاء عن نجيب محفوظ ، كذلك شاهدتُ فيلمًا فاتنًا بعنوان « عاشق الكتابة والحياة « عن غابريل غارثيا ماركيز ، وفيلمًا لا يقلُّ جمالًا بعنوان « الحكيم « عن توفيق الحكيم ، وفيلمًا ساحرًا بعنوان « أنيس المطر « عن بدر شاكر السياب ، و» جوّاب العصور « عن الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني ، و « حارس الشقاء والأمل « عن الروائي السوري الكبير حنا مينه ، و» قصة حلم « عن المسرحي العظيم و ربان قصيدة النثر محمد الماغوط ..أهم ما في سير هؤلاء المبدعين عشق الكتب ، شغف الكتابة ، حب الحياة ، الانحياز للناس والمكان ، والتشبث بالأحلام والأمل..ولأني أعيشُ حالةً من « الكسل القرائي « - هذه الأيام - قررت ملء فراغي بالمشاهدة العميقة المثمرة و الممتعة.. هكذا : شاهدت فيلمًا وثائقيًّا عن محمد أركون بعنوان « اللامفكر فيه « ، وآخر عن جبران بعنوان « أرواح متمردة « ، وثالثًا هو «جنون فان غوخ « ، ورابعًا بعنوان « ملهمات بيكاسو « ، كما شاهدت باهتمام «المقابلة الأخيرة « وهي حوارٌ طويلٌ وثريٌّ جدًّا مع إدوارد سعيد مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة ، قام بأعباء الترجمة ثلاثة شبان من المملكة لغتهم صافية كنبع .. أيضًا شاهدت حوارًا جميلًا آخر مع الروائي اللبناني الذي يكتب بالفرنسية أمين معلوف صاحب « سمرقند « و « الحروب الصليبية « و « ليون الإفريقي « و « صخرة طانيوس « وسواها .. مختتمًا متعتي بمتابعةِ حوارٍ رشيقٍ عذبٍ مع السارد الفاتن الطيب صالح أجراه المحاور المشاكس العنيد الصديق محمد رضا نصرالله. بعد أن فرغتُ من هذه الوجبةِ الدسمة من المشاهدات أحسستُ أني صُنْتُ روحي من الابتذال ووجداني من التلف. 9 حين شاهدتُ هذا الفيلم الأمريكي الجميل الذي بعنوان (The Judge) عجبتُ لهؤلاء القوم ، إنهم يتناولون قضايا الحياة - خصوصًا البسيطة منها وما أكثرها - بشكلٍ عميق ، وبلغةٍ مختلفة ، وحوارٍ متقشف..ثمة زهدٌ في الكلام ، نأيٌ عن الثرثرة ، تاركين الصورة هي التي تقول .. في أفلامهم حتى الصمت يقول ما لا تقوله الكلمات ..بينما في كثيرٍ مما تنتجهُ السينما العربية التي أدمنتْ تناولَ نمطٍ مملٍ من القضايا ثمة ثرثرةٌ تبعثُ على الغثيان. 10 وعن السيرةِ الملهمةِ للمغني الضرير / راي ريتشارد ، أتذكرُ فيلمًا جميلًا عميقًا بعنوان « راي « ، أقتبسُ منه هذا المشهد المؤثر : * الأم المسحوقة المعدمة مخاطبةً طفلها الذي أوشك على خسارةِ بصره : تعال ، سأضعُ لك المرهمَ الذي منحني إياه الطبيب ماكلود . - راي : لا يروقني ، إنه يلذع. * الأم : تعال إلى هنا ، يا بني...لقد دفعتُ ثمنه دولارًا ، آمل أن يكون فعّالًا..وتضيف : ارفعْ رأسك كما قال الطبيب..هذا الدواء سوف يفيدك....ثم كُف عن فرك عينيك. وتتابع حديثها : لن أكذبَ عليك ، أنت تفقد بصرك..لا يمكن للأطباء فعل شيء ، لذا علينا تدبر الأمور بأنفسنا. - راي : أجل ، ولكن ... * الأم : كفى..توقف عن البكاءِ حالًا ، لا وقت لدينا للبكاء.. امسحْ دموعك ، لن يشفقَ أحدٌ على فقدان بصرك .. -راي : أجل ، أمي.. *الأم : سأريكَ كيفية العمل لمرةٍ واحدة..سوف أساعدك إن أخطأت مرتين ، لكن في المرة الثالثة سوف تتدبر أمرك بنفسك..هكذا تجري الأمورُ في الحياة...الآن ، انهضْ و تذكَّرْ أنت تُصَابُ بالعمى وليس بالغباء. 11 ( The Theory Of Everything) وهذا أيضًا فيلمٌ جميلٌ يتناولُ سيرةَ العالِم الفيزيائي / ستيفين هوكينغ .. بإيجازٍ أقولُ : تلك سيرةٌ ملهمةٌ أيضًا ، مليئةٌ بتجليات العبقرية ، الحب ، الإيثار ، الإنجاز ، مقارعة الأسقام ، ومجابهة العلل ، والتشبث بالتحديات ، و الأمل ، وقوة الإرادة .. صحيح إن الجسدَ قد يخونُ الروحَ أحيانًا ، لكنه لن يفلحَ في إخضاعِها وقَصِّ أجنحتِها واختزال آفاقها ما دامت تستبسلُ وتعاندُ وتتعالى على الوجع وتتوق للتحليق ... بقي أن أقول : في هذا الفيلم راقَ لي « إيدي ريدمين « الذي قامَ بدور ستيفين ، إنه ممثلٌ عبقريٌّ نال جائزة الأوسكار عن جدارة. 12 في سياقِ أحداثِ فيلمٍ كرديٍّ بعنوان ( المشردون) - وهو فيلمٌ ساحرٌ رغم أنفِ بساطتِهِ ، وفاتنٌ رغم أنفِ تقنيتِهِ المتواضعة - قالتْ طفلةٌ لطفلٍ كان شغوفًا بصحبِتها : كيف تراني ؟ رَدَّ بسرعةٍ وصدقٍ يلمسُ القلب : - أراكِ حديقةً ، حديقةً كبيرة. 13 * أما الفيلم الكردي الجميل الآخر الذي جاء بعنوان ( نصف القمر ) ، فقد أخذني بعيدًا برهافةِ لغته وجسارة أحداثه ،وتناوله الجرئ لأحداثِ « حلبجه « الشهيرة ، حيث الإبادة الجماعية أيام صدام حسين.. أقتبسُ منه هذا المشهد الذي ليس يذبل أبدًا : «مامو « في البرد والريح والثلج والمطر يدخلُ قريةً تشبهُ الأطلال خاليةً من البشر ، يسألُ سيدةً مسنَّةً كانت هي الوحيدة التي خرجت له من هذا الصمت المريع : - أليست هذه قرية صديقي « كاك خليل « ؟ - السيدة العجوز : نعم ، إنها لكذلك . مامو : أو ليست هذه قرية « سوراب « ؟ العجوز : لا . إنها « تانجيح باليح « منذ اليوم الذي ولدت فيه وهي تحمل هذا الاسم . مامو مستغربًا : « تانجيح باليح « ؟!! إذن ماذا عن « كاك خليل « ؟ أين هو ؟ العجوز : « كاك خليل « حانت منيته ، لقد مات. مامو مصدومًا : ماذا ؟ متى توفي ؟ العجوز : بعد ظهر أمس . مامو : وأين أهالي القرية ؟ تجيبُ العجوزُ بحزنٍ كامل : إنهم في المقابر ! 14 أخيرًا ، أختمُ هذه الجولة من المشاهدات بهذه الومضة الغنائية العذبة التي اقتطفتُها من فيلمٍ بعنوان ( Notting Hill) - بطولة جوليا روبرتس ، و هيو غرانت : « من دون أن تقولي كلمةً ، يمكنكِ إضاءة الظلام «.