في كتاب « جميل البارودي » لمحمد السيف..

الخطيب المفوه على منبر الأمم المتحدة.

سيُفاجأ من يعرف أن جميل البارودي -أشهر مندوبي السعودية في الأمم المتحدة - كان مسيحيا تحول أهله من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية، كان جميل سيد خطباء الأمم المتحدة بين عامى ١٩٤٥ و ١٩٧٥، وٱنذاك كان ذكر اسم السعودية في العالم مرتبطا في الأذهان بالتضامن الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهذا ما قد يثير الاستغراب، ولكنها حنكة من الملك فيصل رحمه الله، ودلالة على ما يتيحه الإسلام لمواطنيه على اختلاف أديانهم من حقوق وواجبات، وربما ظن ظانٌ أن اختيار مسيحي عاش جزءا من حياته في أمريكا كان فيه نوع من مراعاة علاقات الضرورة بين السعودية وأمريكا، ولكن مواقف جميل في الأمم المتحدة - وخاصة ما كان منها له علاقة بفلسطين - كانت حادة في تنافرها مع السياسة الأمريكية. ولم يكن ذلك قاصرا على الموضوع الفلسطيني بل كان له مواقفه القوية في قضايا حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحق تقرير المصير، ومساواة الصهيونية بالعنصرية، وفي كل هذه المواقف كان هناك خلاف جوهري مع الموقف الأمريكي، وفي القضايا التى تمس الإسلام كان يذكر :» أن هذا الميثاق على الجملة لا يلائم المبادئ والعادات التي يدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات  تختلف- في بعض الأحوال- اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نص عليها الميثاق، والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الغربي». كذلك لم تكن السعودية تفتقر إلى مؤهلين من أبنائها ليشغلوا هذا المنصب ، فإن أول رئيس للممثلية السعودية في الأمم المتحدة الشاعر أحمد عبد الجبار، من أبناء مكة ، كان حاصلا على تأهيل عال من الجامعة الأمريكية في بيروت، والممثل الثالث كان السفير عبدالله الخيال من الدرعية ، درس على الشيخ محمد بن إبراهيم ، ثم حصل على تأهيله الجامعي من كلية العلوم بالقاهرة، و لم يخل هذا المنصب قبل البارودي من أبناء الدول العربية ، أسعد فقيه ( لبناني درزي) جمع بين منصبي الوزير المفوض للسعودية في واشنطن والممثل الدائم لها في الأمم المتحدة ، كذلك فإن أحمد الشقيري ( فلسطيني) كان مستشارا في الوفد السوري ، فطلبه الملك سعود ليصبح الممثل الدائم للسعودية في الأمم المتحدة ، وقد أصبح بعد إقالته رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وتلى البارودي في منصبه السفير سمير الشهابي (فلسطيني)، وكان أول سعودي يرأس الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انتخابات شهدت منافسة شديدة.  اسم البارودي يطلق على من حمل البندقية أو عمل بإصلاحها وبيعها ، وكان اسماً منتشرا لعدة عائلات في الوطن العربي ، ولا علاقة لعائلة منها بالأخرى، عائلة جميل لبنانية من سوق الغرب، ومنها رجال علم وسياسة ، والده مراد وابن عمه إسكندر كانا من أوائل من درس على الدكتور كرنيليوس فانديك الذي كان من مؤسسي الكلية الإنجيليّة السورية التي أصبحت الجامعة الأمريكية فيما بعد، وقد درس الباروديان علوم الكيمياء والصيدلة والطب، ومن الطريف والمهم أن نعرف أن كلاهما عمل في مجلة « الطبيب» التي صدرت كمجلة متخصصة للطب باللغة العربية ، وكان صاحب امتيازها الدكتور جورج بوست أستاذ الجراحة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد استمر صدورها أربعين عاما وكان إسكندر البارودي آخر رئيس تحرير لها ، وكان من الممكن أن تستمر لولا أن كلية طب القاهرة وكلية الطب في الجامعة الأمريكية قد تحولتا لتدريس الطب من العربية إلى الإنجليزية للأسف. كذلك فإن هيلانة البارودي ابنة عم جميل كانت أول طبيبة عيون في سوريا وقد تخصصت في بريطانيا. مدرسة سوق الغرب التي درس فيها جميل كانت مستثناة من امتحان الدخول إلى الجامعة الأمريكية ، دلالة علي المستوى الأكاديمي المميز ، والطريف أن من خريجيها الدكتور ك.الصليبي ، وهو مؤسس مجلة اللانسيت الطبية في بريطانيا والتي لا زالت تصدر وتعتبر من أهم المجلات الطبية في العالم. ومن الواضح أن مدارس سوق الغرب وأكاديمياته كان لها دور كبير في انتشار ثقافة الغرب في المنطقة، فأخت جميل» سامية البارودي « فازت في مسابقة ملكات جمال في لبنان. ورغم كثرة الاعتراضات على هذه المسابقة كونها لا تتفق مع الحشمة والقيم الدينية، إلا أن المروجين لها اعتبروها مهمة لبلد يقوم اقتصاده على المصطافين. مثلت سامية سوريا ولبنان في مسابقة دولية في بلجيكا، رغم اعتراض مجموعة من الدمشقيين الذين أنكروا الزج باسم سوريا في هذه المسابقة، اللافت للنظر أن المصرية شارلوت وصفي فازت بالمركز الأول في تلك المسابقة. هاجر جميل مبكرا إلى لندن وعمل بالتجارة ، وقد عمل على تصدير السلاح إلى الحبشة، بعد أن رفعت الأمم المتحدة الحظر على تجارة السلاح إلى الحبشة، وهدف ذلك القرار ظاهريا هو إيصال السلاح إلى الثوار ضد إيطاليا التي احتلت الحبشة ٱنذاك، ولكن ذلك عرضه لملاحقة الشرطة البريطانية، وهو يعلق بأن بريطانيا تكذب لأنها نظريا ضد احتلال الحبشة ومع الثوار ضد إيطاليا وعمليا لا تريد إيصال السلاح لها. وقد انتقل إلى نيويورك للمشاركة في تحضير معرض لبنان فى (إكسبو نيويورك) وحاز جناح لبنان على إعجاب كبير، وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية لم يستطع العودة إلى لندن.  تعرف مبكرا على الأمير( الملك) فيصل، وهناك روايتان الأولى أنه تعرف على الملك فيصل وأخيه الملك خالد عند زيارتهما لأمريكا عام ١٩٤٣م ، وكانا قد حضرا لمقابلة الرئيس روزفلت، وقد أقاما شهرا كان البارودي مرافقا لهما في كثير من جولاتهما ، ولكن هناك رواية أخرى حصل عليها المؤلف مشافهة من عبدالعزيز المنقور الملحق الثقافي بالسفارة السعودية، أن الرجلين قد تعارفا خلال زيارة الأمير فيصل إلى بريطانيا عام ١٩٣٩ م، وكانت لحضور مؤتمر أعدت له بريطانيا عن قضية فلسطين. عام ١٩٤٥ رأس فيصل وفد بلاده إلى قمة سان فرانسيسكو الذي ضم الدول المنتصرة في الحرب العالمية والدول الصديقة، وفي الطريق عبر نيويورك التحق البارودي بالوفد . وكُلف ٱنذاك بتأسيس المكتب السعودي في نيويورك وهو المكتب الذي يتابع مسئوليات الوفد السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة. كما كلفه الأمير فيصل بمتابعة دراسة أولاده في جامعة برينستون. سافر البارودي مع الوفد إلى مصر حيث التقى الملك عبدالعزيز الذي كان في زيارة لمصر، ويبدو أن خبرته في الأمم المتحدة كانت سببا لأن يطلب الرئيس اللبناني بشارة الخوري مقابلته عندما زار لبنان عام ١٩٤٦م .  كانت قدرة جميل على الرد الماكر على التهديدات والافتراءات لا تُبارى. بعد قرار حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة  صرح كيسنجر بأنه من المحتمل اتخاذ إجراءات أمريكية مضادة للعرب إذا استمروا  في فرض حظر على شحن النفط، قال جميل : ما الذي يعنيه كيسنجر بالإجراءات المضادة؟ ولماذا لا يعلن عنها كرجل ومسؤول؟  وفي نفس السياق ألقى الرئيس الأمريكي فورد خطابا أمام منظمة الأمم المتحدة، قال فيه : إن أمريكا لم تستخدم الطعام كسلاح سياسي على الرغم من الحظر وزيادة أسعار النفط، وهذا الكلام ينطوي على شيء من التهديد. علق البارودي : «إن برميل نفط بعشرة دولارات يستطيع أن يحرك سيارةً عدة أيام بينما وجبة غداء بسيطة بمبلغ عشرة دولارات تُهضم في بضع ساعات»، وواضح ما يبطنه الرد من سخرية.  وقد نقلت جريدة النهار انفجار البارودي في وجه مندوب الدولة الصهيونية ، قدمت الصحيفة للتقرير بالقول « كثيرون يقولون عن مندوب السعودية، السفير جميل البارودي، أنه الدولة رقم ١٣٦ العضو في الأمم المتحدة، وتظهر تدخلاته وخطبه في اجتماعات مجلس الأمن أنه الرجل الأقوى والأكثر شجاعة، على الرغم من خروجه أحيانا على الموضوع. ومهما يكن رأي الناس في السفير البارودي، فهو أعتق المندوبين وأوفرهم خبرة في المنظمة الدولية، وعندما يشير إلى أحداث جرت قبل ٢٥ عاما، فهو يؤكد كلامه بالقول: كنت هناك».  في جلسة مجلس الأمن المشار إليها ، حاول رئيس الجلسة مندوب أستراليا تأجيل كلمة المندوب السعودي، وأخيرا أخذ البارودي الكلمة، وبعد ساعة من الكلام قاطعه المندوب الصهيوني يوسف تكواه: حضرة الرئيس أرجو أن تضع حدا للخطيب، البارودي : لم أقاطع هذا الرجل أبدا، تكواه: أحب أن أذكر أن هذه الجلسة يشاهدها الملايين من الناس. البارودي: اخرس!، تكواه : يجب عدم تحويل الخطاب إلى كلام ضد السامية. البارودي: أنت ضد السامية، أنت ضد العرب. ( يلاحظ هنا إلى أن البارودى التقط كلمة السامية ببراعة مؤكدا أن العرب ساميون، وأن الصهاينة مدعو سامية). تكواه : إنه لمخجلٌ و مخزٍ ألا يُقاطََع المندوب الذي يتكلم الآن. توجه البارودي إلى رئيس الجلسة قائلا : إذا لم تضع هذا الرجل عند حده فسأسكته أنا، ثم استدار نحو المندوب الصهيوني:   أخرس! ، تكواه : وأنا أطالبك حضرة الرئيس أن تضع حدا لهذا المخزي، الرئيس : النظام. البارودي: نظام، لماذا يثير هذا الرجل الفوضى؟ أنا لست ضد السامية فأنا سامي، كان بالأمس يقول إنني دعمت الهتلرية، هل توقفه عند حده ولا توجه كلامك إلي. أنا لم أقاطعه أبدا في الماضي، ما هذا النوع من المقاطعة؟   صرح رئيس بلدية  نيويورك عن أن وجود مقر المنظمة الدولية في نيويورك كلف الخزينة سبعمائة ألف دولار لتمويل التدابير الأمنية التي اتخذت بسبب زيارة عرفات للأمم المتحدة، فعلق البارودي مطالبا بنقل مقر هيئة الأمم إلى جنيف ، وأن على رئيس بلدية نيويورك أن يطلب المبلغ من روكفلر نائب الرئيس الأمريكي نيكسون، لأن مؤسسة روكفلر هي من تبرع بالمقر لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك، و ذلك لأن نيويورك كانت مقرا للحركة الصهيونية منذ عام ١٩١٦. ولا يخفى ما في تعليق البارودي هذا من تعريض بأمريكا وعلاقاتها مع الدولة الصهيونية وتأثير اللوبي الصهيوني عليها.  لم تكن مواقف البارودي تأتي بناء على توجيهات متواصلة  من الرياض، بل كانت وليدة فهمه لجوهر السياسة السعودية.  في أحد اللقاءات الصحفية وكانت مع جريدة النهار يقول: « أنا مستقل الرأي ولست متعصبا، إلا لقضيتي الكبرى : فلسطين، ومن فضل ربي أن الملك فيصل أعطاني حرية التصرف بالنسبة إلى موضوع قضايا حقوق الإنسان والقضايا الوجدانية في الأمم المتحدة، أكثر الدبلوماسيين في المنظمة مقيدون بتعليمات حكوماتهم، ولا يدرون كيف يتصرفون». لم يحدث اختلاف مع موقف الحكومة إلا مرة واحدة، فقد انتقد البارودي الدور السوري في لبنان، وكالعادة فإنه كان تلقائيا، ولذا صرح محمد عبده يماني وزير الإعلام ٱنذاك : بأن جميل البارودي لم يُكلف بالحديث عن الدور السوري في لبنان. وعلى أي الأحوال فإن الرجل مرض وتوفي بعد ذلك بقليل وكان ما يزال على رأس عمله . رحمه الله. توفي البارودي عام ١٩٧٨ بعد أن نُقش اسمه كأبلغ خطيب على منابر الأمم المتحدة، التي كانت ساحات معروفة للتنافس الخطابي السياسي.