حضارة فاوست

أجمل كلمة قالها (فاوست) هي: (في البدء كان العمل) بدلا من (في البدء كانت الكلمة) في التراث المسيحي، فالعمل المشترك هو الذي ولّد اللغة المشتركة، وباللغة المشتركة أصبح الإنسان إنسانا، وبتطورها تطورت مواهبه وزادت رهافة، جيلا إثر جيل، في عملية ديالكتيكية، بين المواهب وبين اللغة، بحيث يتأثر كل منهما بتطور الآخر، ويؤثر فيه. ولكن هذه الكلمة العذراء التي قالها فاوست، لا تغفر له الذنب الأسود الذي اقترفه حين باع روحه للشيطان لقاء نيل الملذات. هذا الموقف ذكرني بمن سمى الحضارة الغربية (حضارة فاوست) أي أن الغرب باع روحه للشيطان لقاء المال، أي أنه جدد أسوأ ما في تراثه. ليس هذا وحسب، بل إنه هدم ما بناه تراثه، منذ بزوغ الفكر الفلسفي الذي اهتم ببلورة المفاهيم الإنسانية كالعدالة الاجتماعية، والأخلاق، والخير، والمعرفة والفضيلة، والجمال، و(معرفة النفس) وهو الأهم من سلسلة المفاهيم، بالإضافة إلى ما أبدعه السفسطائيون، مرورا بعصر الأنوار، حتى الآن. لقد هدم أجمل عنصر في اللغة، وهو الصدق، وأسكت نبض الضمير البشري في فئات كثيرة من الناس، فسقط الفرق بينهم وبين الوحوش الضارية، وإلا فأي ضمير بشري لا يحترق، وهو يشاهد الإبادة الجماعية للأطفال ولأمهاتهم، تنفيذا لخرافة قيلت قبل خمسة آلاف عام؟ بانعدام الضمير ينعدم الهدف للفعل البشري، فيصبح فاعله ـ كما يقول القدماء ـ (حاطب ليل) بل ينعدم عنده معنى الثنائيات التي يقوم عليها فهم التفاعل الاجتماعي: فلا فرق بين الخير والشر، ولا بين الليل والنهار، أو بين الحياة والموت، أو النصر والهزيمة.. ويبقى المال وحده هو الذي يعطي للأفعال البشرية معناها. ويحتل قانون الغابة، وهو (القوة هي الحق) كل الساحات. وهذا ما نعانيه الآن. هنا، علينا أن ننتظر الذكاء الاصطناعي حتى يكتمل نضجا، ويضع لنا حلا لهذه العقدة المحيرة، ولكن ألا ترى أن ذلك بعيد؟ كلا، ليس بعيدا فهذا الذكاء ينمو بسرعة مذهلة، حتى أن على زمرة الكتاب في الجرائد والمجلات أن يتأهبوا للرحيل من ساحة الكتابة؛ لأن هذا الذكاء سيحتلها و سيحملهم جميعا في سفينة ثم يغرقها بهم، غير مبال بصراخهم. نحن بشر اعتاد معظمنا أن يفهم بواسطة أذنيه، وتتمايل رؤوسنا عند سماع الأصوات العذبة، فهل هذا الذكاء يجيد الغناء، إن أجاده فقد اجتمع (الخبز والحشيش والقمر)