كيف تتعلّم الفلسفة بدون معلّم !؟

في زيارتي لمدينة «لندن» في الصيف الماضي، وفي صبيحة أحد الأيام، كنتُ أطوف بين رفوف مكتبة «واترستونز» الضخمة في منطقة «البكاديللي»، والتي تتميّز بتعدّد طوابقها وبتشكيلة واسعة من الكُتب، ولسان حالي قول القائل: «حين يُطلقونني في مكتبة غنيّة بكُتبها، أشعر بالفرح والانبهار، مثل طفل في مخزنٍ للألعاب». وأثناء تجوالي فوجئتُ بسلسلة من الكتب العجيبة، واسمها «دليل المُخادعين» How to Bluff?، فتناولتُ كُتيّباً منها وتأمّلتُ عنوانه، وأنا أكاد لا أُصدّق ما تقرأه عيناي! الكتيّب اسمه «كيف تُخادع لشقّ طريقك في عالم الفلسفة»!؟ وللوهلة الأولى ظننتُ أن المؤلّف يمزح، وأن الكتاب ينتمي إلى تلك المسلسلات الفكاهية التي تحمل عناوين مثيرة، وتتضمّن محاولة ً ناجحة أو فاشلة لرسم ابتسامة على الوجه الكئيب لحياة الإنسان المعاصر. ولكن عندما قلّبتٌ الكتاب وجدتُ بأنه ليس في الأمر نكُتة، فالكتاب قد جرى تأليفه للغرض المذكور تماماً في عنوانه، وهو ببساطة إرشاد القاريء إلى بعض الأسماء والمعلومات السطحية، التي يستطيع أن يتفوّه بها كالببغاء في جلسةٍ ما، بحيث يتوهّم سامعوه أنه علّامةٌ في عالم الفلسفة، وأنه «سُقراط» عصره و»أرسطو» زمانه»! تابعتُ تصفّح بقيّة كُتب السلسلة الموضوعة على رفّ خاصّ في مكان بارز، وهي كالكتاب السابق، ولكن في حقول أخرى: «كيف تُخادع لشقّ طريقك في عالم السياسة؟» والمحاسبة، الأدب، الإعلام، وغيرها من المجالات التي يكدح البشر عادةً للإلمام بها، وها هي كلّها أمامك على الرفّ، مثل المعلبّات الجاهزة في «السوبر ماركت»، ولا يتطلّب منك امتلاكها غير دفع ثمنها. يبدو أن هذه السلسلة قد أُصدِرت منذ زمن بعيد، وعدد الكُتب التي صدرت منها حتى الآن عشرون كتاباً، لكن النجاح الكبير الذي لقيته، بشهادة موظّف المكتبة، سيُشجّع بلا ريب مؤلّفها على توسيع السلسلة، حتى تُغطّي كافّة مجالات الحياة، مُساهمةً منه في خلق القاريء الذي يجهل كلّ شيء عن كلّ شيء، لكنه يُتقن التظاهر بمعرفة كلّ شيء! وبعد أن تناولتُ نُسخة من كتيّب «كيف تُخادع لشقّ طريقك في عالم الفلسفة»!؟ توجّهتُ إلى المقهى الذي يحتلّ زاوية في أحد أدوار المكتبة وجلستُ أقرأ.. وكما يقول الغلاف الأول: «يضمن معرفة واسعة فورية»، وكما يقول الغلاف الثاني: «وأنت أيضاً تستطيع أن تكون فيلسوفاً ناجحاً! هل تشعر بالنقص لأنك تجهل موضوع النقاش؟ اقتنِ «دليل المُخادعين» ليُساعدك على التظاهر بالمعرفة، وسوف تبدو لهُم ذكيّاً كما يبدون لك»! ويقول المؤلّف في مقدّمته: «إن غاية الكتاب هي منح القاريء المُرتبك معرفةً سطحية بالأمور، لكنها تكفي لخداع السامعين، وتزويده بقشرة من المعلومات، بحيث يبدو لسامعه وكأنّه من الراسخين في العِلم»! ويحتوي الكتاب على قائمة قصيرة بأسماء الفلاسفة، التي على «مُدّعي الفلسفة» حفظها، مع جُمَلٍ شهيرة يستطيع استخدامها «ككليشيه»، للتعبير عن أفكار مألوفة أو متوقّعة، لإثارة شهقات إعجاب الجالسين.. عبارات فلسفية قصيرة مثل: «أنا أُشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى إصبعي»، «أنا أفكّر إذن أنا موجود»، «أن تُضيء شمعة خير لك من أن تلعن الظلام»، «لا يمكن للمرء أن يخطو مرّتين في نفس النهر»، « الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لا أعرف شيئاً»، لدينا أُذنان وفمٌ واحد حتى نتمكّن من الاستماع ضِعف ما نتكلّم»، «إذا أعطيتَ رجُلاً سمكة فإنك تُطعمه يوماً واحداً، وإذا علّمته الصيد فإنك تُطعمه مدى الحياة».. إلخ. ويطرح المؤلّف بعض الأمثلة للتطبيق العملي: فإذا كان الحديث مثلاً يدور حول النوم والحُلم، فما على المُدّعي إلا أن يقول بصوتٍ شاعريّ مُتهدّج: « ذكر «ديكارت» في تأمّلاته الفلسفية، أنه «لا يجد مُبرّراً كافياً للتمييز بوضوح تامّ بين حالة الصحو وحالة النوم والحلم»، وأن «فرويد تساءل قائلاً: «هل الأحلام محض أرواح تهيم بعيداً عن الجسد لدقائق، أم هي لوحة فنية تُعبّر عن المشاعر والرغبات واللاوعي»!؟ وعند الحديث عن فلسفة الجَمال، يُمكن الاستشهاد بقول «جان جاك روسو»: «إنزع من قلب الإنسان حُبّ الجَمال، تسلب الحياة روعتها وجاذبيتها»، وقول «ديفيد هيوم»: «الجَمال ليس خاصيّة في ذات الأشياء، بل في العقل الذي يتأمّلها». وهكذا. وختاماً، فقد كانت المعرفة هي الأمل الوحيد الباقي للإنسان ليستعيد إنسانيّته، وها هي المعرفة تقع أيضاً رهينة في أيدي قراصنة العصر الاستهلاكي!