تأليف المختلف!

-١- أصدر الصديق العزيز د. هاني الصاعدي ثلاثة إصدارات، كان يمكنني أن أتجاوزها تحت بند الشهادة المجروحة باعتباره القريب في النسب، لكني لن أستجيب لمثل هذه المقولة التي شاعت حتى حجبت كثيرا مما يستحق الإنصاف والثناء، فحق إنتاجه أن يحتفى به في سياق صناعة الذوق والجمال، وهو عزيز في ظل المطروح الوافر من النتاج المتلاحق في شتى الحقول، وفي ظل سيادة منطق السوق الإعلامية الرائجة، التي هيمن عليها مشاهير الإعلام الجديد من جهة، والوجوه المألوفة من جهة أخرى؛ فلم نعد وسط هذا الركام نستطيع الخلوص إلى ما ينفع ويمكث في الذاكرة إلا أن نشير أو ندلّ ولو بكلمات معدودة تقضي حق العلم والأدب. -٢- استهلّ هذه الإصدارات بكتابه القيّم (تأليف المختلف) وهو الأهم من بينها، فقد أجاد فيه كل الإجادة، وبرع في تتبع جذور تأليف المختلف وجمع ما تفرّق في كتب العلماء السابقين بدءا من الخطابي والباقلاني مرورا بعبد القاهر إلى أن انتهى إلى محمد عبد الله دراز والرافعي فمحمد أبو موسى، ويعتبر الكتاب، في نظري، من الرسائل العلمية الفريدة في بابه، إذ يقوم على معيار فريد في استحسان البيان وصل به إلى حدود النظرية. وتأليف المختلف في أساسه عنصر أو مكون من مكونات نظرية التناسب إلا أنه بعد هذا الكتاب صار نظرية كاملة هي أقرب إلى الشعر من نظرية التناسب، بحكم أن الشعرية كامنة في تأليف الأضداد والجمع بين أعناق المتباعدات كما قرر عبد القاهر من قبل. ولا تتوقف هذه النظرية على الاستحسان والتناسب فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى الرؤية الكونية الواسعة التي تشمل الفكر والأدب والحياة، وذلك ما كشف عنه الكتاب في مفاهيمه وفصوله التي بذل فيها د. هاني جهدا مميزا جمع فيه أصول هذه النظرية المتجددة في استحسان البيان. -٣- وثاني إصدار هو كتاب (صناعة البلاغة)، وقد أجاد فيه الباحث حين تتبّع الجذور والمباحث البلاغية، والتفت إلى فرق لطيف بين تجديد البلاغة وتجديد النظر إلى البلاغة فانحاز إلى الثاني وهو الأهم، لأن تجديد النظر أدعى إلى تجديد العلم، وأقوم بالنظر العلمي الرشيد. وفي هذا السياق كتب مقدمة منهجية راسخة الجذور في الفكر البلاغيّ، واستخلص خمس قواعد منهجية من فكر الشيخ الأجلّ عبد القاهر الحرجاني فأحسن كلّ الإحسان في تأطيرها ضمن متطلبات المنهج في البحث العلمي، وصاغها على أكمل وجه، دون أن يحرمنا من متعة البيان الجرجانيّ فصدّر كل قاعدة منهجية بنص جرجانيّ هو قلادة الجيد ودرة التاج في رصد معالم المنهج. -٤- أما ثالث الإصدارات، فكتاب لطيف لم يخرج في حلة طباعية، ولكنه خرج في حلّة تقنية، وسمه بعنوان:(على دكة الدكان) جعله لليوميات التي كتبها في الفيسبوك على عفو الخاطر حينا وعلى التريّث حينا آخر، لكنها في جماعها تدوينات ظريفة لطيفة هي أشبه بالمكسرات الأدبية، كما وصفها بذلك، تستطعم منها اللوز والجوز، والفستق والكاجو، والبندق والزبيب بخفة روح ورشاقة أسلوب. وقد أجاد فيها حين نقل الحدث اليومي في الحارة الشعبية، ورصد بعض الملامح اليومية في مثل هذه الحياة رابطا بين الإنسان والآلة في الخلق والسلوك، فخرجت على هذا النحو اليومي من الكتابة سريعة التحضير طيبة المذاق. -٥- وبحكم معرفتي القريبة بهاني الصاعدي نسبا وصهرا، يسعني القول إنه جادّ فيما يأخذ ويدع، وله مع نفسه سياسة من يتخوّل لها بما يقرأ من العلم والأدب، ولكنه مؤخرا سلك مسلك من يسعى إلى تأليف المختلف للجمع بين الجدّ والهزل والتأمّليّ والعفويّ؛ فعثر على أسلوبه الخاص وكتب ذاته في سياق العلم والأدب بما يبشّر بأدب رصين وعلم متين ودعابة تنبت على أطراف الكلام وقت الترويح والاستجمام، فردّ بذلك آخر أمره إلى أوّله كما لو كان يتمثّل فيما يكتب هذا النوع من تأليف المختلف.