
تكتنز تجربة الشاعر(عارف الساعدي) كماً ونوعاً من المعاني والدلالات المفتوحة التي تمنح القصيدة حضورها وتدفقها الدرامي المنفتح على فضاءات الحياة، والذي يمد نسغ القصيدة بحيوية وطاقة شعرية لا تنضب، ولا تنتهي بقراءة واحدة، كما لا تسلم نفسها لمتلق عابر، فهي تمتد الى أعماق المعنى الشعري ومتن المبنى الدرامي، وهي تحاكي مفردات الحياة برمتها عبر مفردات تتعاضد فيها جماليات كل من الأنساق (الشعرية) والأنساق (الدرامية)، هذه الأنساق التي يحاول الشاعر من خلالها ان يستنطق الحياة اليومية بكل تمفصلاتها وتداخلاتها وتحولاتها، ليضع كل المسلّمات والبديهيات والحقائق المتوارثة موضع الشك والمساءلة، لتتشكل رؤيته ويتجسد موقفه الشخصي والفكري والفلسفي الذي يكشف عن انشغاله واشتغاله بتلك الأسئلة الوجودية الكبرى، المتعلقة بإشكاليات الحياة والطفولة والوطن والإنسان وهواجسه وتوجساته وتوقه واشتياقه واحلامه وامنياته، لنغادر بذلك ما نجده لدى عديد الشعراء، حيث التراكيب البلاغية والألفاظ اللسانية والمفردات المعجمية التي غادرتها مفهومات الشعرية الجديدة باتجاه تأشير لحظة انبثاق وتشكل تلك الأسئلة الوجودية، لنقف عندئذ على أسلوبية شعرية متفردة، منحت تجربة الشاعر (عارف الساعدي) تميزاً وخصوصيةً في الخارطة الشعرية العربية المعاصرة، من خلال ذلك التدفق الدرامي/ الشعري، الذي يهيمن حضوره في مجمل قصائد الشاعر، التي تبلور فيها ملمحاً أسلوبياً خاصاً به، وهو ينأى في قصائده عن الوقوع في أسر القالب الشعري، كالوزن والقافية كما في معظم قصائد شعراء اليوم، ولو توقفنا عند أشهر قصائده، وهي (ما لم يقله الرسام):ـ رسمت غيماً ولم أرسمْ له مطرا لكنه كسر اللوحات وانهمرا وفزز الماء طيناً كان مختبئاً في لوحتي ناطراً في صمته المطرا وكان في الطين حلم لو منحت له وقتاً ندياً لكانت لوحتي شجرا لكنه اختلطت ألواننا فإذا هذا الرمادي ليلاً يصبغ الفقرا فالمفارقة تبتديء منذ الموجّه الأول من موجّهات القراءة والتلقي، حيث العنوان يولّد لدى المتلقي تشويقاً ورغبة للبحث في تلك التساؤلات الناتجة عن تلك المفارقة في العنوان، فمثلاً لماذا لم يكن العنوان (ما لم يرسمه الرسام) أو (ما لم يقله الشاعر) لطبيعة ارتباط الرسام بمهارات التعبير بالرسم، وارتباط الشاعر بمهارات التعبير بالقول؟ فالمألوف والسائد إن الرسام يرسم ولا يقول، والشاعر يقول ولا يرسم، ويبدو إن الشاعر هنا أراد أن يهيء المتلقي ويزجه في لعبة البحث عن أسئلة مراوغة ومخاتلة ومبسطة وعميقة في ذات الوقت، قبل الدخول الى فضاءات القصيدة وعوالمها، وقد نجح الشاعر في توجيه بوصلة التلقي، واختطافه من ذاكرته التي ألفت الأشياء كما هي في حقيقتها وواقعها، في حين إن الشاعر يقول ما لا يمكن قوله بالمنطق المألوف واليومي، فكان له ما أراد. من هذا المنطلق بدأ التدفق الدرامي/ الشعري الذي منح القصيدة طابعاً حداثوياً، من خلال التوظيف المتجدد والمغاير لمجمل أنماط الحداثة والتجديد في الشعرية، على مستوى محمولات المعنى المنفتح على صور شعرية متعاضدة مع سياق البنية الدرامية المتصاعدة نحو الذروة دوماً، لا سيما عندما يؤسس الشاعر توازياً وتداخلاً بين الممكنات الدرامية لصورتي الشخصيتين، صورة الرسام في لوحته، وصورة الشاعر في قصيدته، حيث يحاكي الشاعر ممكنات التعبير عند الرسام ووسائله واشتغالاته، والمتمثلة هنا في ألوانه، حتى تكمل كل منهما صورة الآخر، صورة الرسام وصورة الشاعر حين تختلط الألوان، ويطفح اللون الرمادي الذي يعتم (ليل الفقرا)، والألوان هنا تنفتح على أكثر من معنى ودلالة، فهي تتشظى بين كونها ألوان لوحة الرسام وبين وصفها ألوان لوحة الحياة ورماديتها التراجيدية. كما يتقمص الشاعر في هذه القصيدة شخصية الرسام وهو يرسم لوحته التي تتمرد فيها الألوان عليه، فنجد تكاملا بين الصورة التشكيلية والصورة الشعرية، حيث يتحدث الشاعر بلسان الرسام، والرسام بلسان الشاعر، وكل منهما يشخّص الحزن الذي يضطرب ويمور في أعماق نفسه، شخصية الشاعر وشخصية الرسام، وهي محاولة جريئة من الشاعر (الساعدي) في تعميم التجربة الفريدة الواقعية الخاصة ونقلها الى فضاءها الإنساني الأشمل والأعم، وهذا هو قانون الإبداع العام. حزني اذا أكمل الرسام لوحته أعاف بيتاً له أمْ ظلَ منكسرا..؟ فيما تتمحور قصائد ديوان (جرة أسئلة) حول محور مركزي، يتمثل في الخوض في الهموم اليومية والأسرية وبعض التفاصيل الاجتماعية التي منحت القصائد جواً عاماً، أضفى عليها حيوية متجددة وروحية متوهجة وطابعاً متفرداً، من خلال الوقوف على تمفصلات شعورية غير تقليدية وغير مألوفة في عملية الكتابة الشعرية، لتمنح القصيدة صدقيتها وحميميتها، فضلاً عن دراميتها وتعاضدها مع تفاصيل الحياة اليومية، بكل طاقتها الشعرية المشحونة والمتصاعدة درامياً، ولعل تلك الممكنات نجدها من خلال عودة الشاعر إلى الطفولة والحارات القديمة وأصدقاء الزمن الحميم الذين مضوا دونما وداع، وتمثل هذا المحور في أكثر من قصيدة ضمن ديوان (جرة أسئلة)، ففي (اعتذار) يأمل الشاعر من الحياة المليئة بالهزائم والإنكسارات التي لا تحصى، أن تمنحه استراحة ولو قليلة لتفقد الأبناء ولملمة كشف حساب الذات: يحق لنا بعد هذي الهزائم ان نستريح قليلا نتفقد أبناءنا ونحصي انكساراتنا ونلملم وجه مساءٍ خجولا.. وفي قصيدة (الصديق الوحيد)، تهيمن الحالة الإنسانية بقوة وقسوة درامية متصاعدة الى أقصى ذروتها عندما يكشف الشاعر حالة (الإنسان والأب والصديق والشاعر) الذي يرقب الزمن، ويتوجس منه، فهو سيدور به باتجاه العزلة الموحشة والمظلمة والوحدة المريرة والمعتمة: لم يتبق من أصدقائي القدامى أحد ولدي الصغير هو صديقي الجديد كنت ممتلئاً بالأصدقاء وكنا نجوب الشوارع... ومع مرور الزمن لم يتبق من أصدقاءه القدامى أحد، وحتى صديقه الوحيد وهو ولده الصغير الذي كان يشاركه صعود السيارة، والذي كان اقرب الناس إليه، يتخلى عنه فيما بعد: كل مساء ولدي الصغير يصعد معي سيارتي يجلس في المقعد المجاور لي هو وحده من تبقى من أصدقائي نتحدث معاً نضحك معاً ونثرثر معاً.. وبعد ذلك يحدث الإنقلاب الدرامي الموجع، وتأتي اللحظة المتفجرة درامياً، تلك اللحظة التي طالما كان يخشاها (الأب/ الصديق/ الشاعر)، حيث دار الزمان دورته القاسية، ليقطع الحديث وتسكت الضحكات وتصمت الثرثرة: وسيدور الزمان وأصعد في المقعد المجاور له حين يأخذ صديقه العجوز الى المستشفى لن نتحدث بشيء لن نضحك معاً أو نثرثر.. فالمعمار الدرامي الأساسي الذي شيد عليه الشاعر بنية نصه، يتماهى مع ما حققته الدرامات الإنسانية الكبرى في تجلياتها وفي بوحها وفي معالجاتها لقضايا الإنسان، برؤى تكشف عن حجم الوجع الرابض في أعماق سحيقة من الذات الإنسانية الموجوعة، وهي تكشف في ذات الوقت عن طاقة الإنسان على تحمل كل هذه المآسي والوجع. وهنا نعود الى قصيدة (جرّة الأسئلة) التي حمل ديوان الشاعر عنوانها، مكتنزة بذلك كل حالات التشظي والإنقسام بين الشك والإيمان، بين أسئلة الوجود والعدم، بين الحيرة واليقين: سأعترف الآن إني كسرتُ على بابكم جرّة الأسئلة ياه أشكُّ وأُؤمن ياه أشكُّ وأُؤمن وهذا الشك، وهذا الشعور الذي يعتمل في وجدان الشاعر الذي لا يتيقن الحقائق بمسلماتها التقليدية، كان حافزاً لإنتاج الصورة الشعرية التي تتخطى الأشكال والأنماط المألوفة، وذلك عبر الحفر في أراض بكر، والبحث عن فرضيات مغايرة للبوح، والكشف عن تلك الهواجس التي تحاكي أعماق النفس الإنسانية المضطربة والباحثة عن كينونتها في دراما الحياة الصاخبة. وبمثل هذه المفردات الحياتية اليومية، يشيد الشاعر (عارف الساعدي) معمار قصائده بطرازية متفردة، وهو يكرس خصائص شعرية درامية محدثة، مؤكداً على حقائق ومفهومات جديدة للشعرية، من دون افتعال أو لهاث وراء الاستعارة والبلاغة والمجاز، ولم ينشغل بعملية البحث عن مفردات صاخبة، لذا نجده ينفتح على البنى المجاورة للشعر مثل البنية الدرامية، بأريحية وعفوية منحت القصيدة روحيتها وحميميتها، هذا الوعي المنفتح بهذه المرونة العالية المنفتحة على المعمار الجديد لبنية القصيدة الحديثة ولمفهوم الشعرية الجديدة، هو أحدى أهم العلامات الفارقة في مجمل قصائد الشاعر، وبمثل هذه اللغة المتوهجة في موقد دراما الحياة، وهذه المفردات والصور الشعرية لواقع مشحون ومتداخل ومضطرب، يؤسس الشاعر (عارف الساعدي) رؤيته الشعرية، بعيداً عن التنميق والتلفيق..